المدرسة المباركيَّة - 1911

أولت دولة الكويت اهتماماً لافتاً بالثقافة، وكان لها الدور الفعال في الثقافة العربيّة منذ عقود، وقد تبلور هذا الاهتمام وتجسّد على أرض الواقع في مشاريع ثقافيّة أسهمت في تكريس الثقافة وتفعيل تأثيرها الإيجابيّ في مختلف مناحي الحياة، ولم تكن تلك المشاريع وليدة ارتجال أو انفعال، بل كانت نتاج تخطيط ودأب وعمل وتوجّه ممنهَج ومدروس، ما جعلها في مقدَّمة الركب الثقافيّ العربيّ، وغيّرت عبر تلك المشاريع الخارطة الثقافيّة العربيّة، خارطة المركز والأطراف، حيث كان يُنظَر إلى الخليج من الجانب الثقافيّ على أنّه من الأطراف، لكنّ السعي الحثيث والعمل والإرادة ساهمت في تغيير تلك النظرة، وتبديدها، إذ أوجدت الكويت معادلة جديدة، وتبعتها دول الخليج في صياغة وتفعيل هذه المعادلة، وهي معادلة المركز والأطراف. ولم توقف الكويت جهدها لتغيير المعادلة، بل كان العمل الواقعيّ والمُنجَز الثقافيّ والتخطيط الواعي، الذي ساهم في لفت الأنظار والقلوب والعقول، باتّجاه الحركة الثقافيّة الجريئة التي كانت تتنامى، وتأخذ أبعادها الحضاريّة والإنسانيّة، وبذلك كانت الكويت تحتلّ موقع الرائد على خريطة الثقافة العربيّة.

التأسيس الواعي المدروس يمهّد لتحقيق إنجازات كبرى، ويساهم في التأصيل اللاحق بكلّ عناية وتدقيق، وقد تتخلّل مرحلة التأسيس والتأصيل بعض الهنات، وهي بدورها تساهم في تنشيط الأعمال لا الرجوع عنها، وكما يُقال، وحدهم الذين يعملون يخطئون، أمّا الذين لا يعملون فيقيناً أنّهم لن يخطئوا. واستتبعت مرحلة التأسيس مرحلة توزيع الأدوار، وخلق بيئة ثقافيّة تكفل الحرّيّة الفكريّة والجرأة التجريبيّة والتجديد الخلاّق، وكان توفير تلك البيئة بمثابة صفّارة الإطلاق الثقافيّة، التي تزامنت مع النهضة الحضاريّة، وترافقت مع الإرادة في التطوير والنهوض العامّ.

كثيرة هي المشاريع الثقافيّة التي احتضنتها دولة الكويت وأطلقتها، وكانت أن غدت تلك المشاريع منارات ثقافيّة يهتدي بها المثقّفون العرب من كلّ الأصقاع في البلاد العربيّة، وحملت بذور التجديد والتغيير، ومن بين أهمّ تلك المشاريع، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب الذي أنشئ عام 1973، ومنح جوائز عن أفضل إنتاج محليّ في الثقافة والفنون والآداب، وأصدر العديد من المؤلّفات والمعاجم والفهارس، وأسهم في نشر النتاج الفكريّ المميّز، واهتمّ بالتبادل الثقافيّ والحضاريّ، وحقّق الأهداف التي حدّدها في انطلاقته، كاختيار وسائل نشر الثقافة، والعناية بشؤونها، والعمل على تنمية وتطوير الإنتاج الفكريّ وإثرائه، وتوفير المناخ المناسب لإنعاشه، والعمل على صيانة التراث والقيام بالدراسات العلميّة فيه، والسعي لإشاعة الاهتمام بالثقافة والفنون ونشرها، والعمل على توثيق الروابط والصلات مع الهيئات الثقافية العربيّة والأجنبيّة..  وقد اعتمد في ذلك خططاً علميّة هادفة، ساهمت في تطوير القطاع الثقافيّ الفنيّ ودعمه إلى أقصى الحدود..

كما هناك المشروع الثقافيّ المميّز، دار الفنون الذي يسعى إلى تمتين الأواصر الحضاريّة والفنّيّة عبر المشاركة الفاعلة في المعارض الدوليّة والإقليميّة، والتي تؤكد على وجود حركة فنيّة لافتة في الكويت، وتحقّق التواصل والتفاعل بين مختلف الأجيال.

وفي عام 2002 وتحت رعاية أمير البلاد، الذي كان النائب الأوّل لرئيس مجلس الوزراء حينها الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، تأسّست مكتبة البابطين المركزيّة للشعر العربيّ، وهي أوّل مكتبة متخصّصة في الشعر العربيّ بهذا الحجم الهائل، في يقين من أمير البلاد بضرورة الحفاظ على "ديوان العرب" بقديمه وجديده، فكان بحق مشروعاً رائداً في العالم العربيّ، وهي: "تعدّ إضافة حقيقية في مبناها ومعناها ومحتواها للكيانات الثقافيّة الكبرى في عالمنا العربيّ، وكنزاً شعرياً ومعرفياً هائلاً، وزاداً روحيّاً شافياً، لكلّ مثقف عربيّ، وغير عربيّ، يستلهم من ديوان العرب، أفكاره ورؤاه، وأحلامه ولغاه" .

ومن بين المجلات الكويتيّة الحاضرة في عموم الوطن العربيّ، مجلّة العربيّ الصادرة عن وزارة الإعلام الكويتيّة، التي بلغ عمرها أكثر من نصف قرن،  والتي ساهمت في إطلاق أقلام كثير من المبدعين العرب، وكانت حافزاً هامّاً في الجانب الثقافيّ، حيث كانت مفتوحة على كلّ التيّارات الفكريّة، ما أكسبها ثقة القرّاء والمتابعين، فكانت في صدارة المجلات الأكثر قراءة ومتابعة وجمهوراً في العالم العربيّ.

كما كانت هناك إصدارات أخرى، على سبيل المثال، سلسلة عالم المعرفة، السلسلة الأبرز في العالم العربيّ، هذه السلسلة التي أصدرت مئات الكتب القيّمة، في مختلف المجالات، وظلّت تحتفظ بثرائها وإثرائها، تقدّم أطروحات في مختلف ميادين العلوم والحياة، من البيئة إلى الفكر إلى العلم إلى التفاصيل في العلوم إلى العالم الرقمي… إلخ.. وهي سلسلة تصعب الإحاطة بها من جوانبها كلّها، لغناها واتّساعها وشمولها، ولأنّها أثّثت وأسّست مكتبة نوعيّة للقارئ، وأغنت جوانب كانت غائبة أو محجوبة عن القارئ. وكانت رافداً من الروافد الفكريّة الثقافيّة الهامّة.

بالموازاة مع السلسلة كان إصدار سلسلة إبداعات عالميّة، السلسلة التي تعرّف القارئ العربيّ بالإنجازات الأدبيّة للأمم والثقافات الأخرى، وقد شكّلت هذه السلسلة ذائقة متفوّقة للقارئ، وقدّمت تحفاً أدبيّة إنسانيّة، أسهمت في وضع القارئ العربيّ في قلب الثقافة العالميّة، وشكّلت جسراً متيناً بين الثقافة العربيّة والثقافة العالميّة، ولم تبقِ العربيّ بعيداً عن المتغيّرات والمستجدّات الأدبيّة، وكانت بهذه السلسلة تستكمل إغناء المكتبة العربيّة بالجديد والنوعيّ والمميّز في مختلف المجالات.

ولا يغفل المرء عن الدعم الذي ظلّت الدولة تقدّمه لهذه المشاريع التي أضافت إليها مشاريع كثيرة مواكبة تدعم توجّهها الحضاريّ الثقافيّ الرائد. وقد ظلّت هذه السلاسل والكتب والمجلات تقدّم للقارئ العربيّ هدايا رمزيّة، في مسعى حثيث وتقدّمي لبناء المعمار الثقافيّ الحضاريّ العربيّ بعيداً عن الإقصاء والتهميش والاستعلاء.

وكان أن يجد القارئ نفسه أمام شلال ثقافيّ رائد قادم من الكويت، وفي مهبّ فيض حضاريّ متألّق، يستمتع بالجديد الجميل، يغتني به، وينقل ثروته إلى لاحقيه. ولم يكن الاهتمام بالكتاب والثقافة على حساب جوانب أخرى، بل جاء ذلك حلقة في سلسلة نهضة شاملة لم تغفل عن الجانب الثقافيّ، بل وضعته في صدارة الأولويّات التي تتكامل في بناء الحضارة.

 – عبدالله ميزر

abdhisen@gmail.com

صوره: kuwaitcultre.org

0 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You May Also Like