في خضم معمعة المسلسلات الخليجيّة الموصومة بتهمة تدني الإخراج، والتمثيل، و هشاشة الأفكار، و هبوط مستوى السيناريو والحوار؛ يأتي مُسلسل "أوراق الحُب" بإطلالة فنيّة تبعث أملاً جديدًا في مستقبل الدراما الخليجية بأفكاره التي تحترم عقليه المشاهد، وحواراته البعيدة عن الترهّل والتكرار المستهلك المطاط، وإخراجه الذي ينم عن موهبة وخبرة ووعي كبير وإتقان لأبجديات الإخراج وتفاصيله الدقيقة، مُقدمًا مشاعر الحُب، الحزن، الشر، التوسّل، التضحية، الرجاء، الصدمة، الشجاعة المعنوية، الإيثار، الأمل، التفاؤل، اليأس، البكاء، الغفران والتسامح، الصدق في مواجهة الذات، محاولات رصد الجمال الإنساني والكوني إلى جانب محاولات تضميد جروح الرّوح ورضوض النفس في رحلة البحث عن الذات؛ مغلفة بحكاية تجمع بين الرومانسية والدراما في حياة جيل شبابي جديد بفكر عميق وثوب معاصر، ليستحق ما حققه من نجاح جماهيري ملفت، كان ومازال يتصاعد بعد عرض كل حلقة من حلقاته على امتداد جُزئيه اللذين يكمّل احدهما الآخر.
صُدفة حُب
أثناء مرافقتها والدتها في رحلتها العلاجيّة؛ تلتقي البطلة "مهرة"؛ الشابة الرقيقة الفاتنة قلبًا وقالبًا بالشاب الذي تجمع شخصيته بين الشهامة والطموح "حمد" خلال تجولها لالتقاط بعض الصور بين أغصان حديقة "هايدبارك" اللندنيّة، فيقف الزمن ملتقطا لهما صورة حيّة تولد من رحم الإعجاب ليلونها الحب، لكن سلسلة من المفاجآت والعقبات الدرامية تنتظرهما بعد عودتهما إلى الإمارات، وتقف بالمرصاد أمام هذه الحكاية التي تتشابك مع حكايات وشخصيات أخرى تضج بالأمل والرغبة والحنين؛ لتصل إلى طرق غير متوقعة ينتهي بها الجزء الأوّل. ثم يعود الجزء الثاني لتبدأ أحداثه من حيث انتهى الجزء الذي سبقه؛ حين يحاول "حمد" اللحاق بمهرة ووالدتها اللتان يغادران المطار إلى لندن في محاولة من "مهرة" لنسيان ذكريات الماضي وترميم ذاتها التي مزقتها أوجاع الحياة، ثم تتطوّر الأحداث مقدمة فصولا جديدة من القصة، وحاملة أبعادا فلسفية يطرقها الحوار دون ابتذال. إذ نسمع "مهرة" تتحدث عن فلسفة اجتماع لحظة اللقاء الإنساني بالفراق مُخاطبة والدتها بقولها: "تدرين امّايه؛ أحس جن القدر قاعد يلعب ويايه آنه وحمد، دايما يجمعنا في لحظة فراق، مادري ليش"، بينما نسمع "حمد" يفصح لصديقه "سيف" عن مشاعر تعجز عن توضيحها الكلمات بقوله: "يا سيف؛ أنا موب قادر أعبر عن الصوت اللي بداخلي، يمكن الصمت يخفف الألم اللي فيني، أحسن من اني أتكلم"، ثم نسمع والد حمد يخاطب ابنه ناصحًا إيّاه بقوله: "الدنيا يا ولدي مثل المكينه الكبيره، فيها تروس، وكل ترس يعتمد على الثاني، واحنا حكاياتنا وسوالفنا مثل هالتروس، كل واحد منّا يعتمد على الثاني. يعني إذا اخترب ترس من هالتروس؛ أكيد تتأثر هالمكينة". وبهذا يقدّم المسلسل رؤية عميقة تضيف إلى فكر المُشاهد، وتضرم النار في بعض أفكاره السطحيّة القديمة مؤسسة محاولات جديدة للتساؤل، والبحث، والتحليل، والمناقشة في ذهنه؛ محققة الهدف الدرامي الأسمى بهذه التركيبة الفنيّة المتقنة، والنابضة بالحياة في إطار علاقات إنسانية واقعية تجمع بين البساطة والعمق، لتشبه في تفاصيلها الدقيقة المتأرجحة بين الهدوء والتوتر ما يقوله المشاهد الخليجي ويفعله يوميًا دون تصنع أو تكلّف أو مبالغات كبيرة ممجوجة تتجاوز حدود الواقع الخليجي أو تسيء إليه بتصدير صورة هستيريّة ساذجة عنه. كما يقدم صورا من الإيمان والذكاء والإخلاص والحياء والشهامة ونخبة أخرى من الأخلاقيات العربية الأصيلة التي مازال واقعنا الخليجي يعتز بها، وينفرد بإطلالة ثقافية غير مباشرة تبدو في مزجه بين السينما، الشعر، الرسم، والتصوير الضوئي، في توليفة أنيقة من المشاعر الراقية التي تسمو بذوق المشاهد وأحاسيسه، وتغري خياله بولوج هذا العالم الساحر بألوانه الخلابة.
واقعية تعانق الخيال
امتاز المسلسل بتحقيق أحد أهم شروط العمل الدرامي الناجح، والقادر على التأثير في إحساس المتلقي، وهو المزج بين الواقع والخيال بمقادير منطقية محسوبة لا يطغى أحدها على الآخر، وتم أخذ هذه النقطة باعتبار تقنيات التصوير والإخراج والمونتاج والموسيقى التصويريّة؛ إذ صوّرت معظم مشاهد المسلسل في إمارة أبو ظبي الإماراتيّة كموقع تصوير رئيسي يؤكد حضور البيئة الخليجية مكانًا وزمانًا، إضافة إلى مناطق أخرى من دولة الإمارات، وغيرها في بريطانيا والنمسا وفق مقتضيات السيناريو لإضفاء لمسة من الجمال والواقعية على أجواء المسلسل الذي أخرجه إياد الخزوز، وكتب قصته وأشعاره محمد سعيد الضنحاني، بينما كتب له السيناريو والحوار محمود إدريس؛ قام ببطولة أدواره الرئيسية كل من: ميساء مغربي، شهاب جوهر، ليلى السلمان، سيف الغانم، سعيد بو مانع، ومثلت في أدواره اللاحقة كوكبة موهوبة من الفنانين الخليجيين والعرب. نال تلفزيون أبو ظبي حق العرض الأول لجزئه الأول والثاني قبل أن تستقطبهما قنوات عربية أخرى لها مكانتها الرفيعة في سوق العرض الدرامي على الشاشة الصغيرة، ويتم تحميل حلقاته على مواقع الشبكة العنكبوتية الإلكترونية بكثافة تؤكد نجاحه، واستقطابه شريحة واسعة من المشاهدين الشباب في منطقة الخليج.
تعرض الحلقة على قناة ابو ظبي في الساعة 10 مساءً بتوقيت السعودية وتعاد على قناة ابو ظبي بلس الساعة 11 مساءً.
– زينب علي البحراني