عندما انتشر البث التلفزيوني مبهراً الناس وجاذباً اهتمامهم الكبير في منتصف القرن العشرين كانت شاشته الصغيرة سبباً في لم شمل الأسرة حولها بكل ما تقدمه من ترفيه وبرامج متنوعة، ورغم كل واجهه من انتقادات تشير إلى زعزعة أركان المجتمعات التقليدية بترويجه قيماً قد لا تتفق مع قيم تلك المجتمعات، إلا أنه استمر في شق طريقه بثبات، ليُساهم في ثورات التقدم الإنساني، والمجتمعي، والتكنولوجي، ويتحول إلى وسيلة تثقيف سهلة لا يكاد يستغني عنها كبير أو صغير، بغض النظر عن نوع الثقافة التي يقدمها، ومدى قوتها أو هشاشتها.
أدوار مهمة
بقول مساعد المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، (يانس كاركلنس) في معرض حديثه عن التلفاز كجهاز مؤثر: "يكمن سر هذا الجهاز الجبار في قدرته على اختراق الأسوار والأبواب والوصول إلى الناس في غرف معيشتهم، يطلعهم بالصوت والصورة على ما يجري من احداث في أماكن اخرى بعيدة عنهم. من الناحية التاريخية، مارس التلفزيون دوراً مهماً في مختلف المجتمعات. ففي سنوات الستينيات، أي مرحلة ما بعد الاستعمار، ساهم في ترويج مفاهيم التحرر بين شعوب العالم النامي، وفي سنوات الثمانينيات والتسعينيات، كان من بين الأدوات الفاعلة في نقل قيم الحرية والديمقراطية بين مجتمعات أوروبا الشرقية".
كما يرى (كاركلنس) أن التلفزيون –كان ولا زال- منبراً مهما لحفز الرأي العام ونشر الوعي لمجابهة أي مشكلة ، كما هي الحال في حملات مكافحة مرض نقص المناعة المكتسب، أو حملات جمع التبرعات لمساعدة منكوبي الكوارث الطبيعية، كما يرى أن بإمكان عالمنا أن يغدو عالما أفضل مما هو عليه إذا أحسن استخدام هذا الجهاز في تقريب وجهات نظر أطراف الصراعات الساخنة بدلاً من التفرقة والاقتتال، ومناقشة ما يواجه المجتمعات من مشاكل اقتصادية، وقضايا متعلقة بالسلم على نطاق شعبي.
توعية أم تغبية؟
رغم تفاؤل السيد (كاركلنس) بدور التلفاز وآثاره الإيجابية إلا أن التلفاز أثبت مدى خطورته من جوانب أخرى، لا سيما في المجتمعات التي مازال العامة من أفرادها تحت خط الوعي والنضج الفكري، فتلك الشاشة الصغيرة التي لطالما استخدمت للتقريب بين الأفكار في عصر العولمة وقبله بقليل، تحولت إلى وسيلة لتسطيح الفكر، ومخاطبة غريزة الكسل، واللعب على أوتار العصبيات الفئوية لزعزعة أمن البلدان الآمنة التي يصدق البسطاء من سكانها كل ما تصبه الشاشة في عقولهم دون غربلة، لتتحول تلك الشاشة إلى وسيلة "تغبية" بدلا من أن تكون أداة "توعية". ويرى (أنتوني سميث) الخبير في شؤون الصحافة والإذاعة والتلفزيون أن المنافسة الرهيبة بين القنوات الفضائية الحديثة أدت إلى محاولات مستعرة لاجتذاب اهتمام المشاهد ولو عن طريق برامج بلا هدف، مشيراً إلى "برامج الواقع" التي تتخذ من حياة الإنسان العادي المغمور مادة للعرض والتسلية، حيث يُجمع عدد من الأشخاص في منزل واحد لفترة معينة يخضعون خلالها للمراقبة بواسطة آلات التصوير التلفزيوني. كما يرى (سميث) أن التشابه صار سمة غالبة على كل ما يقدم من فترات إخبارية، وبرامج حوارية، وبهذا يتوهم المشاهد انه يتمتع بحرية اختيار كبيرة، بينما هو يختار بين عناوين كثيرة في العدد، لكنها متشابهة في النوعية!
من جانب آخر، يرى بعض المتخصصين أن نهاية عصر التلفزيون تقترب بسبب ثورة الاتصالات الإلكترونية وما تبعها من ارتفاع شعبية الإنترنت والهواتف الذكية المحمولة التي قطعت الطريق على سلطة البث المركزي من قنوات تنتج برامجها وتبثها إلى عدد كبير من المشاهدين، خصوصاً وأن الثورة الإلكترونية في القرن الواحد والعشرين حررت الأجيال الجديدة من ضرورة الجلوس أمام الشاشة في توقيت محدد لانتظار برنامج محدد بعد أن صار بإمكانه متابعة المادة المرئية في الوقت الذي يحلو له، وفي أي مكان.
في النهاية، لا يسع مخلوق إنكار دور التلفاز التاريخي على أكثر من صعيد، وسيبقى من الصعب كسر مفهوم الاتصال الجماهيري الفضائي مادامت الجهات التي تتغذى مادياً وتجارياً على هذا الاتصال على قيد قوتها وذكائها الذي يتقن التسلل إلى العقول غير المفكرة.
– زينب علي البحراني