إن مما لا شك فيه هو أن للتقنيات الحديثة الأثر البالغ على حياتنا كأفراد أو جماعات وأننا بتنا نخصص لها المساحة الأكبر من وقتنا، وخير مثال على ذلك هو التلفاز، الذي أصبح كأحد أفراد العائلة والعنصر المهم الذي قد نستمع له دون أن نقاطعه ونستقي منه نمط حياتنا والخطوط العريضة لما يحدث خارج سرب وجودنا ليصلنا بالعالم، وبأنماط العيش لشعوب كثيرة تختلف عنا في ملامحها وتوجهاتها، وأكثر ما قد يشدنا في ذلك التلفاز هو المسلسلات، لقد كنا قبل عدة سنوات نرتكز على مسلسل خليجي الطابع فنحرص على متابعته ونلتمس من خلاله حياتنا ومشاكلنا وأفراحنا أيضاً، وإن هبت رياح التغيير على أمزجتنا تجدنا نتابع مسلسل عربي، قد نجد فيه اختلاف طفيف في طريقة الحياة عنا إلا أننا نجد أن هناك همزة وصل بيننا إما في الدين أو في بعض الأعراف والتقاليد، ولكننا لم نكتفي بذلك وأبينا إلا أن نخرج من نطاق هذا المجتمع وذاك من خلال مشاهداتنا إما بسبب حب التغيير المفرط أو الملل والتكرار الذي بات يعتري الدراما العربية ككل.
فأتجهنا إلى الدراما التركية او بالأحرى وجهتنا قنواتنا لها، فلم نكن نعرف عنها شيئا قبل سنوات قليلة، فهجمت تلك القنوات على مسلسلاتهم كالأسد عند هجومه على الفريسة، فانطفأ وميض إنتاجنا ليسطع قمر الأتراك في اغلب البيوت العربية والخليجية على وجه الخصوص، لنستبدل استضافة ثلاثين يوم بثلاثمائة وستة وثلاثين يوم بغض النظر عن عدد الأجزاء لتلك المسلسلات، وليتغير معها كل شيء فكما قيل"من عاشر القوم أربعين يوم صار منهم" وكثيراً ما سمعنا عن أناس انتكست حياتهم بسبب تلك المسلسلات إما لأن الزوج يريدها مثل لميس أو نور أو لأنها تريده مثل مهند أو يحيى، ولم يقف الزحف عند الرجال والنساء بل واصل ليجرف الأطفال ايضاً، أتذكر عند زواج أخي واسمه "يحيى" سألته ابنة أخي الأكبر ذات الأربع سنوات: "عمو يحيى وين لميس؟"
بالفعل لقد وصل الزحف إلى كل مكان، غير مدركين أن عاداتهم لا تشبه عاداتنا وقضاياهم تتنافى مع قضايانا فلو لاحظنا أن كل مسلسل تركي يتضمن فتاة حامل دون زواج ولم تناقش لديهم قضية التحليل او التحريم بل كان الأهم لديهم قضية النضال من اجل الحب فقط، وهذا بديهي فهم يحاكون مجتمعهم ولم يطرأ على بال احدهم أن العرب سيشاهدونها ولم يهتموا لذلك أصلاً، ولن يغيروا من أنفسهم لأجلنا بل بالعكس، هناك من له مصلحه في أن يصبح هذا الأمر عادي لدى العرب بالتدريج حتى ولو كمشاهدة على الأقل، ولقد حاولت الدراما المكسيكية الإكتساح من قبل، وظلت فترة في بعض القنوات العربية ولكنها كانت محدودة جداً ولم يكن الإقبال عليها متدفق كما الآن، قد يكون ذلك لأن قنواتنا لم تدعمها، أو ان اغلب الأفراد من مجتمعنا رفضوها فلم تكتسح الساحة، وظلت ومازالت كالقطة التي تخرج باستحياء تارة وتختفي تارة أخرى، ولكن ذلك الحال لم يكن مع المسلسلات التركية التي خرجت مهرولة كالفرس ولازالت تثير البعض باستعراضاتها وقفزاتها العالية جداً التي قد تطيح ببعض القيم والمبادئ والتشريعات الدينية الثابتة.
كما ان بعضاً من محتوياتها أصبح دروساً للعنف ومرتع للظلم والاستبداد وأنا هنا أشير لتلك التي يكثر فيها القتال والكر والفر والتي قد تولد في نفوس أطفالنا الكثير من السلبيات أهمها المشاهد الدموية التي تخيفهم فيتخيلوها بين الحين والأخر إما في المنام أو في اليقظة او بعض الأفكار التي قد تدعم فكرة أن من يحمل السلاح هو وحده البطل بغض النظر عن أهدافه، والطفل هنا قد لا يفهم كل ما يشاهد بل يرى فيطبق، إنها بالفعل كوارث تربوية وقد لا تستطيع الأم أو الأسرة برمتها احتواء الموقف أو فكر الطفل، فإن لم يشاهد هذا في البيت سيشاهده عند الجيران أو الأقرباء، فالطفل في هذا السن مجرد متلقي ومادة خام لكل مدخل خارجي سلبي كان ام ايجابي، ولو ملنا إلى منحى آخر من موضوعات تلك المسلسلات لوجدنا أن أكثرها مشاهد حميمة، وقد تعبنا بصراحة من القول لأطفالنا ان هذا أبيها أو أخيها!!
والدائرة تتسع لتشمل الكبار أيضاً، فمن كانت شخصيته تبعية لن يجد ضيراً في أن يتبعهم، وقد يؤثر ذلك على كل من هو مقبل على الزواج أو مراهق لم تتضح له الصورة بعد، غير مدرك أن مجتمعنا مختلف تماماً عنهم، ويبدأ بتشييد قصور من الأحلام الوردية بحياة مليئة بالحب والوفاء، ولو انه فكر قليلاً لوجد أن ما يتناولونه من أقراص الحب وفيتامين الحنان اليومي ماهو إلا مجرد تمثيل يطغى على الواقع بكثير وإن كنا نستسيغه منهم لجهلنا ببعض مناحي حياتهم، ومن المضحك أن الدراما العربية بدأت في تقليدهم محاولة بذلك استعادة أنظار المشاهد العربي مما زاده نفور على نفور، فإن شاهد الأتراك فهو يشاهد حياتهم ويتقبلها وان كان فيها شيئا من المبالغة التي استندت على أساس واقعي، ولم يأتوا بحياة مجتمع آخر ليوظفوها في مسلسلاتهم، أما المسلسلات العربية المقلدة فالمنفر منها أنها تصنعت ذلك فلم نتقبله لأنه لم يكن من صميم الواقع العربي الذي نعي تماماً كل دهاليزه وحجراته، إن كل ما نريده هو تجسيد حياتنا وحالاتنا بشفافية مطلقة وبشكل مبتكر وليس استنساخ لحياة الآخرين وكما قيل "أعط الخباز خبزه ولو أكل نصفه" لان هناك الكثير ممن لم ينجرفوا وراء التيار التركي ولازالوا تحت سقف الدراما العربية آملين بالأفضل وهذا ما يجعلني اطرح بعض الأسئلة المهمة، ابدأها بماذا بعد الدراما التركية؟ هل سيستعيد العرب مجد الدراما العربية واعين المشاهد العربي؟ وهل سيخفت وهج "آل نور" مع انه طال وجوده وكبر استحواذه؟ وهل محاولات الدراما الإيرانية والكورية ستنجح كما نجحت التركية؟ والسؤال الأهم: هل سترفع القنوات العربية الحصانة والأذرع المفتوحة عن الدراما التركية؟؟
– احلام معوضه القحطاني
صوره: www.adcake.com