هواية توارثها بعض أهل الخليج عن الأجداد، ثمّ طوّروها وسخّروا لها ولعهم، إلى أن وصلوا فيها إلى مستوياتٍ عالية من الفن والاحتراف والإتقان. ما أن يأتي موسم القنص حتى يخرجون -على اختلاف مستوياتهم- في رحلات جماعيّة إلى البر لقضاء أيّام وليالٍ ممتعة مع هذه الرّياضة العريقة، حيث صيد النّهار، وسمر الليل وحكاويه الطويلة الدّافئة.
ما أسرار هذه الهواية؟ أدواتها؟ آدابها؟ فنونها ومراسمها وتقنياتها التي يُدرك الآباء والأجداد تفاصيلها؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه مما سمعناه بألسنتهم الخبيرة.
أدوات لابُد منها:
الصيد بالصّقور، والمسمّى بـ "القنص" هواية على قدرٍ غير قليلٍ من الدّقة والحساسيّة. وسواء كان صاحب الصقر يهدف لتدريب صقره على الصيد الموجّه، أو يطمح للصيد به، لابد وأن تتوفر لديه أدوات احترافيّة خاصّة بهذه الهواية الحسّاسة، ومن أهم تلك الأدوات:
البرقع: غطاء من الجلد الطري يوضع على رأس الصقر ليحجب عنه النظر، وبه فتحة يخرج منها المنقار، والهدف منه تهدئة الصقر وتوجيه تركيزه على الأصوات والفرائس المُستهدفة.
السبوق: خيطان من نوعٍ خاص يُمكّنان مُدرّب الصقر من الإمساك بصقره، فإذا ما حاول الصقر الهرب وجد نفسه مربوطًا، فيعود للوقوف على يد صاحبه أو مدرّبه.
المرسل: يتم ربط طرفي "السبوق" بـ "المرسل" الذي يتكوّن من ثلاثة أجزاء، وحلقة نحاسيّة تمنع التفاف المرسل وتشابكه.
الوكر: المربط الذي يقف عليه الصقر أكثر أوقاته.
المنقلة: قطعة من الجلد أو القماش السميك تستعمل لحماية يد صاحب الصقر أو مدرّبه من مخالبه.
التلواح: مجموعة من أجنحة طيور "الحبارى" مربوطة بخيط طويل، يلوّح بها الصيّاد لإستدعاء صقره.
المخلاة: كيس قطني يعلقه الصياد على كتفه بعد أن يضع فيه لحمًاً طريًاً للصقر لإطعامه أو مُكافأته على اصطياد فريسة.
وللقنص آداب ومراسم:
مما يُضاعف متعة الصيد بالصّقور أن له فنونًاً وآدابًاً يحترمها عشاق تلك الهواية ويُنفّذونها بتلقائيّة وفطرة، بعد أن توارثها معظمهم أبًاً عن جد. ورحلات الصيد تضم مجموعة من الرجال لا تزيد عن ستين شخصًاً ولا تقل عن عشرة، ولا يقل زمن الرحلة عن أسبوع.و يعتمد هواة رياضة الصيد في الخليج على نوعين أصيلين من الصقور، هما "الحُر" و "الشّاهين". و "الحُر" أكبر من "الشاهين" حجمًاً وأطول منه نفسًاً، فإذا ما انطلق كلاهما إلى هدفٍ واحد في الوقت ذاته فإن "الشاهين" يسبق الحُر" أما إذا طالت المسافة فإن "الحُر" يتقدم على "الشاهين".
من مميزات "الحُر" أنه هادئ المزاج، مقدام، يتحمل الجوع، ومنه الأشقر والأحمر والأبيض والمائل للخضرة او السواد، عريض الصدر، طويل الجناحين. أما الشاهين، فهو سريع الانقضاض على الفريسة، يُجيد المُناورات في الجو، ومن ألوانه الأسود أو أسود الظهر والرأس. له عينان واسعتان، ورقبة طويلة.
ولموسم الصيد الحقيقي الذي يبدأ عادة في ديسمبر مُقدّمات تبدأ منذ شهر أكتوبر، حيث تفد الطيور المُهاجرة إلى الصحارى الخليجيّة. وأوّل القنص يبدأ بنقل أخبار عن وجود أحد طيور "الكروان" في منطقة صحراويّة، وعادة ما ينقل مثل هذه الأخبار رعاة الأغنام أو المقيمين في الصّحارى لأسباب مهنيّة، وكثيرًاً ما ينال صاحب هذه البشارة على مكافأة تقديرًاً له من هواة الصيد والمفتونين به. وسرعان ما يستعد هؤلاء لرحلة القنص بعدّتهم وعتادهم، وتبدأ المُغامرة.
يهدأ الجميع.. يصمتون عن الكلام.. ويتم رفع الصقر المُدرّب من قبل عاليًا، ثم يُفك رباط برقعه دون رفعه عن رأس الصقر كي يشعر أنه على أبواب مهمّة قنص فيتوثّب لها، وعند رؤية الفريسة يتم رفع البرقع من فوق عيني الصقر ليبدأ في المُطاردة، وبعد فاصل ممتع من الطيران بين الصقر والفريسة يتمكن من الانقضاض عليها ثم النزول بها إلى الأرض. وأثناء تلك المطاردة يُتابع "الصقّار" صقره بالسيّارة في كلّ اتجاه، حتى إذا ما نزل إلى الأرض مع فريسته يكون مستعدًاً بسكّين يذبح بها الفريسة، ويترك الصقر يأكل كميّة قليلة من اللحم ليشعر بالمُكافأة، لكن دون أن يشبع تماماً ليظل مستعدًاً للقنص التالي، وهناك من يقدّمون للصقر لحم طائر آخر ليحتفظوا بالفريسة على قيد الحياة وتربيتها، المهم في جميع الأحوال هو مُكافأة الصقر قبل تغطية عينيه بالبرقع من جديد، لأن الصقر مخلوقٌ كريم يرفض أن يُعامل مُعاملة الخدم والعبيد، كما أنّه طائرٌ مُرهف الأحاسيس سُرعان ما يُصاب بـ "عُقدة نفسيّة" يصعُب علاجها إذا أساء أحدهم التعامُل معه أو تعرّض لموقفٍ يجرح كرامته! لهذا لا يجوز إطلاق صقرين في الوقت ذاته وراء طيرٍ من الطيور، ولو حدث ذلك عن طريق الخطأ، فإن صراعًاً يدور بين الصقرين على الفريسة لينتهي بفوز أحدهما فقط، وهنا يُصاب الصقر الخاسر بعُقدة نفسيّة تطفيء قدرته على القنص مرّة أخرى، وتحتاج إلى علاجٍ تدريبيّ حكيم!
– زينب علي البحراني