الإغتراب في أرض لا تعرف فيها أحداً ولا أحد يعرفك، يُحوّلك في البداية إلى مخلوقٍ تشهق روحه دهشةً أمام كلّ مشهد، يضيع في أقصر شارع، ولا يدري من أين يأتي وإلى أين يذهب. الأصوات في الخارج تبدو مُتضخّمةً لمسامعه، بينما يبدو العالم ميتّاً بلا صوت داخل مسكنه. ويبدو العالم هائلاً، مُتعملقاً، وشرّيراً غير قابل للتّفسير. ككتابٍ ضخمٍ بحروفٍ كبيرة للُغة يعجز عن فكّ طلاسمها.
وحين يكون الفرق بين بيئته السّابقة وبيئته اللاحقة كبيراً، يتعثّر بعالمه الجديد تعثّر الأطفال بأثاث بيتٍ واسع لم تألفه خطواتهم الأولى، لكنّ تعثّر الإغتراب ليس له حُضن أمّ حنونة يُسارع بتضميد صدمته المُباغتة، وليس له أباً يقف على قيد لحظات بصوتٍ يبعث الحماس على خطواتٍ ناجحةٍ تُنسي ما مضى من عثرات. الأمر يشبه ما وصفته الكاتبة الروائية سالي عادل بين سطور روايتها "العشاء السريع" حين قالت: " الوحدة، الضياع، أنّك اليوم صرتَ رجُلاً كبيراً وعليك الاعتماد على نفسك، احمل أحزانك بنفسك، ادفع لنفسك إيجار المسكن، احصُل لنفسك على الطعام، الكساء، العلاج، وحين تنام ليلاً اسحب الغطاء على نفسك جيّدًا لأنه لن يوجد من يطمئن عليك"
في تلك المرحلة يزلّ المرء –لا سيّما إن كان وحيداً- في حماقات صغيرة وكبيرة كثيرة. يخسر من نقوده أكثر مما يجب، يُحاول الإقتراب من أشخاص لو عرف حقيقتهم لفرّ منهم فراره من أخطر أفعى، ويبكي طويلاً بعد مُنتصف كلّ ليلة، لأنّه يشتاق إلى أبويه، أو إلى أبنائه، أو إلى نصفه الذي يُحبّه حتّى نُخاع الرّوح. ولأنّه يشعُر أنّ تفاصيل كثيرة من حياته تنزلق من بين يدي سيطرته لأسباب غير مفهومة، ولأنّ هذا الكابوس الجديد الذي يعيشه اليوم لا يُشبه ما كانت أحلامه تصبو إليه.
استطعت أن أصف تلك الأحاسيس بصورة دقيقة لأنني تجرعت مرارة الإغتراب كتجربة مؤثرة بكل ما لها وما عليها من مزايا وعيوب، كدليل على أن المواطن الخليجي قد تضطره ظروفه لتلك التجربة بسبب دوافع عديدة تتجاوز الحاجة لتحسين الظروف الماديّة، التي تكون سبباً ودافعاً رئيسياً لإغتراب بعض مواطني الجنسيّات غير الخليجية. وليس صحيحاً ما يتوهمه عدد غير قليل من غير الخليجيين بأن أبناء الخليج لا يحتاجون للإغتراب في حاضرهم، ولم يحتاجوه في ماضيهم كما لن يحتاجوه في مستقبلهم، فأبناء الخليج الذين يحملون جيناته التاريخية بأفراحها وأحزانها يدركون تماما أن الأجداد لطالما اضطرّتهم ظروفهم لمُغادرة أوطانهم والإغتراب في أرض الله الواسعة، لا سيّما قبل مرحلة طفرة النفط في سبعينات القرن العشرين.
وعن هذا يقول الأديب والمفكّر سعودي الأصل بحريني النشأة الدكتور غازي القصيبي (رحمه الله) مُفصحاً عن ضرورة مُراعاتنا لمشاعر المغتربين في بلداننا: "وحذار من أن ننسى أننا كنا إلى ما قبل مرحلة النفط نطلب رزقنا في شتّى أنحاء العالم العربي من دمشق إلى البصرة إلى الهند والسند".
واليوم، تعددت الأسباب والإغتراب واحد. إذ يُفاجأ المرء حين يصادف الخليجيين المقيمين في بلدان غير بلدانهم لأغراض مختلفة أبعد كثيراً من أن يكون هدفها السياحة، أو الترفيه، أو الإستجمام. فمنهم من يغترب لأجل الإستزادة من طلب العلم، ومنهم من يغترب لأن بلده أرسله إلى بلاد أخرى لتأدية وظائف إعلامية أو دبلوماسية طويلة الأمد، ومنهم من يغادر ساعياً لطلب الرزق بالعمل لدى مؤسسات خليجية كبرى في دول خليجية أخرى تستقطب الخليجيين على وجه الخصوص لأن إجراءات توظيفهم أيسر –على الصعيد القانوني- من توظيف غيرهم، ومنهم من لم يجد البيئة الإبداعية الملائمة لمواهبه ومشاريعه الخاصة فينتقل إلى بيئات أخرى تتسع لنشاطاته سواء كانت إبداعية أو تجارية، ومنهم من تدفعه صدمة قاسية، أو تجربة مفجعة، أو ماض عائلي مؤلم، أو صدمة عاطفيّة قاصمة للقلب، أو وفاة جميع الأهل في حادث صاعق، أو أسباب أخرى يصعب حصرها عدداً لإجتياز الحدود على أمل النسيان ببدء حياة جديدة، وغسل غربتهم الروحية بعناء الغربة الجسدية، متجهين في معظم الأحوال للإقامة إمّا في دول خليجية مجاورة، أو إلى أمريكا وأوروبا وكندا والدول الإسكندنافية. وكلما كانت البلاد أبعد، كلّما كانت الصدمات الحضارية والثقافية خلال لقاء الدهشة الأول أكثر وأكبر.
بعد شهور، ورُبّما سنوات، تنكمش غرابة هذا العالم الذي لا يغدو جديداً. فيألف المغترب التّضاريس الجُغرافيّة للمكان، والتّضاريس الرّوحيّة للأشخاص، ويُكوّن شبكةً صغيرةً من المعارف والصّداقات، وتتسع تجربته الإنسانيّة اتّساعا مُضاعفًا. فيُصبح أعمق خبرةً بخبايا النّفس البشريّة، وأكثر إتقانًا لقراءة نوايا الأشخاص الذين يلتقي بهم خلال فترةٍ أقصر كثيراً مما كان إدراكه يستغرقه قبل اغترابه. ويصير شبه مُلقّح ضدّ النّصب، والإحتيال، ومُحاولات الإستغلال الكبيرة والصّغيرة، لأنّ ظروف الحياة تضطرّه للإرتطام بمواقف أكثر تعقيداً وأشدّ صعوبةً من تلك التي كانت تواجهه ويواجهها حين كان مُصفّحاً بحماية الأهل والأحباب والأصحاب على أرض وطنه الأم، فيكبُر من الدّاخل عِقداً كاملاً من الزّمان في كلّ عام.
ومن مميزات الإغتراب بالنسبة للمواطن الخليجي على وجه الخصوص هو أنه يضعه في مواقف تصقل روحه ووجدانه، وتشطف وجهات نظره القديمة التي كان يظنها من المسلمات المؤكدة، ويتحول إلى إنسان رقيق مرهف، لأن أحاسيس المُغتربين تغدو مُفرطة الحساسيّة إزاء التقاط إشارات طلب النّجدة ممن يحتاجون يداً تمتدّ لهم بالعون، فيكتشفون التّائه عن طريقه بنظرةٍ واحدة. ويُبادرون بالتّحيّة والسؤال بنبرةٍ مُطمئنة، ثمّ يبذلون المُستطاع لأجل تقديم المُساعدة أو إرشاد محتاجها إلى من بوسعه بذلها عن طيب خاطر، ودون تييت أدنى نيّة للمنّ، والأذى، أو ترقّب ردّ الجميل، لأنّهم يُدركون من تجاربهم السّابقة مدى مُعاناة المُحتاج، ويُحسّونها، ويشعرون بها، ويؤمنون أنّ ما يفعلونه هو واجبهم تجاه الله الذي حوّلهم من مُحتاجين للمُساعدة إلى أثرياء بالمقدرة على تقديمها. وأنّه وحده القادر على مُكافأتهم بمن يُساعدهم حين تتقطّع بهم السبل في موقف مُشابه.
– زينب علي البحراني