"ستيف جوبز" كان آخرهم، عقلٌ من أب سوري مهاجر صنع المعجزات في العالم، صنع آبل، أعظم مخترعي القرن العشرين، هو ليس أولهم، لأن عقله أكبر من أن يُدار بطريقة روتينية وبأسلوب حياة هامشية.
"من عباده العلماء"..
"إنما يخشى الله من عباده العلماء". (فاطر 28).
بهذه الآية الكريمة يخاطب الله عزّ وجل شريحة لا يستهان بجهودها، ليوضح الأثر الهام لما تخلّفه على الأرض والبشرية جمعاء. وقد يفهم البعض بأن العلاقة تبدو معكوسة بين الإله ومعبوده هنا، لكن شدة بلاغة الجملة وكثرة التقديم والتأخير أعطتها بُعداً دلالياً وجمالياً في نفس الوقت.
أعطى الله تعالى العلماء مرتبة عليا لما لهم من دور في إنارة الدروب وإشعال أضواء المحبة والسلام والأمن في كل مكان تطأها أقدامهم، ويأتي هذا التفضيل في المراتب لأسباب عدة تتلخص في أن العالم الواحد يستطيع قيادة جماعات كبيرة من الناس، فهو قائد من قادة الرأي العام، ولاسيما في مجتمعات ينعدم فيها التعليم وتشهد نسبة كبيرة من الأمية ويسودها الجهل والتخلف.
فمجتمعاتنا الشرقية والإسلامية خصيصاً تعاني من نقص التعليم وارتفاع عدد العاطلين عن العمل وقلة فرص العمل وسواها من مشاكل وظواهر عديدة، ووسط هذه النقاط المظلمة يظهر الدور الجلي للعالم كمورد بشري مهم يساعد في تغيير المجتمع ودفعه نحو الأفضل في جميع المجالات، لكن السؤال الذي يضع النقاط على الحروف هو: هل استطاع علماؤنا وضع اللبنات الأساسية نحو تغيير المجتمع والسعي لارتقائه؟
الإجابة عن السؤال متعلقة بطبيعة النظام السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي الذي يسود كل دولة على حدة، وكذلك بنسب الحريات المتوفرة، ومدى التعاون بين السلطة والعلماء من جهة والعلماء والشعب من جهة أخرى، فهي كفيلة بردم الهوة التي تتسع باستمرار بين المسؤول والمواطن، أي بأخذ العالم دور الوسيط، كالإعلامي تماماً، بين الجهتين للوصول إلى أفضل النتائج وبأسرع وقت.
تلبية احتياجات العالم كإنسان
العالم هو إنسان له دور معين في الحياة، لكن هذا الدور يسمو لدرجة كبيرة ويتجلى في عنصر التأثير، وأولى تلك الخطوات هي التعليم، ورغم الاختلاط الواسع بين المصطلحات سواء في المنظور الثقافي أو الإبداعي أو في مجالات أخرى، وبغض النظر عن شخصية المثقف أو العالم وكيفية ترعرعها وسيرها ومدى توفير حكوماتها متطلباتها، تبقى مسألة اكتساب هذه الشخصية للعلم مثيرة للاهتمام الكامل وتحتاج لجهود كثيفة تبدأ بالتربية والتعليم كما ذكرنا.
هذا الحديث يقودنا بشكل أو بآخر إلى مسألة التعليم في بلداننا والتي تحتاج إلى الكثير من إعادة التأهيل وتحكيم الضمير المهني والأخلاقي للوصول إلى نصف المستوى التعليمي الذي وصلت إليه البلدان المجاورة.
للأسف، يختلف الدور الذي يقوم به العالم في مجتمعه، فرغم الأهمية الإيجابية لمدى أهمية عمله، تبقى الأدوار السلبية موجودة ومتحكمة في سير عمل البعض، وسواء عمل لصالح جهات معادية سرية أو أسهم بشكل نظري أو فعلي في صناعة مواد تؤثر على هيبة الدولة وقوتها وكيانها وعزيمتها، فإن عمله قد ينصبّ في النهاية في أمور لا تُحمد عقباها.
الحكومات تتجاهلهم
ويبقى المقال ناقصاً ما لم يتطرق إلى موضوع اهتمام الحكومات بهم ضمن حدود بلدانهم، ولاشكّ أن كثرة الأساليب التعسفية التي يمارسها بعض الحكام على علمائهم تدفعهم إلى الهجرة والارتباط بعقود مع شركات وهيئات ومنظمات قد تكون معادية سراً أو علناً، وهذه الأساليب تتلخص بوضوح في المستوى الاجتماعي والاقتصادي لهذا العالم الذي لا يحظى بربعه، حيث إن توفير كل المتطلبات يضفي على علمه إبداعات واختراعات جديدة تجني منها الدولة عائدات اقتصادية وسياحية لا تكون في الحسبان، والأمثلة كثيرة على ذلك، فكم من علماء عرب هاجروا تحت مسمى "هجرة العقول" إلى دول توفر لهم ما يبغونه بشكل يحافظ على مجرى حياتهم وكرامتهم، وكم نسمع عن علماء يودون العودة إلى ديارهم بعد تجميع ثروة هائلة واستثمارها في بلدانهم التي تعلموا فيها ونهلوا من خيراتها، لكنهم هُددوا بالقتل مما منع ذلك من العودة، وكم من علماء سخّروا علمهم للشرّ.
ولابد هنا من إبراز الدور العظيم للمبدع الذي لا يقل شأناً عن العالم وكذلك المثقف في كافة مجالات الأدب والنشر وغيرها، هؤلاء ينتجون لمصلحة دولهم، وهم أيضاً عندما لا يجدون فرصتهم في حدود بلدانهم يضطرون للهجرة، لتبدأ سلسلة من المغامرات الحياتية التي تبدأ بدفع رواتب خيالية وعقود احتكار تمنعهم من العودة، كما في حالة الرياضيين والخبراء والمهندسين والأطباء والإعلاميين..
أرقام مفزعة
من هنا، يقترب الهم النفسي والاجتماعي والسياسي للكتّاب والشعراء والإعلاميين من هموم زملائهم العلماء، فالأقلام التي لا تلقى استحساناً مقبولاً، تتحول إلى أقلام مأجورة بين ليلة وضحاها، والكتّاب الذين لا تسمعهم السلطات والشعوب، تتجه إلى صدور أرحب أخرى علّها تجد الملاذ الآمن هناك.
إن مهارة علمائنا المهاجرين إلى الدول الأخرى بالغة الأهمية والوضوح في بنيان حضارتها القائمة على زنود الآخرين، وليس من جديد حين نقول إن الفضل في الكثير من المكتشفات والاختراعات يعود إلى العلماء المهاجرين إليها بسبب الإغراءات السالفة الذكر، التي هي في الحقيقة ليست إغراءات بقدر ما هي تأمين لمستلزمات الحياة.
الحقيقة تبدو واضحة على لسان "فولتير": "إن قصتنا تبدأ من الشرق، لا لأن آسيا كانت أقدم مدينة معروفة لنا فحسب، بل لأن تلك المدينة كوّنت البطانة والأساس للثقافة اليونانية والرومانية، وسيدهشنا أن نعلم كم من مخترع ألزم مخترعاتنا وكم من نظام من نظمنا الاقتصادية والسياسية وما لدينا من علوم وآداب وما لنا من فلسفة ودين يرتد إلى مصر والشرق".
إذاً، إن مسألة هجرة العقول والكفاءات العلمية قديمة قدم التاريخ، وتعتبر أهم خسارة تواجه الدول النامية تحديداً، رغم إحداث نوع من التقارب بين الحضارات وبخاصة بين العلماء. ويقول "مطانيوس كرم" في كتابه "العرب أمام التحديات التكنولوجية": "ويقدر أن أربعة وعشرين ألف طبيب وسبعة عشر ألف مهندس وسبعة آلاف وخمسمائة من المشتغلين بالعلوم الطبيعية، قد هاجروا من الدول العربية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا حتى عام (1976).
ومن هنا لن ينتهي الكلام، فبعض الإحصائيات التي تعود لجامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية ومنظمة اليونسكو وبعض المنظمات العربية والدولية المهتمة بهذه الظاهرة تؤكد هجرة حوالي (100,000) مائة ألف من أرباب المهن وعلى رأسهم، العلماء والمهندسين والأطباء والخبراء كل عام من ثمانية أقطار عربية هي لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر. كما أن 70% من العلماء الذين يسافرون للدول الرأسمالية للتخصص لا يعودون الى بلدانهم.
كما تشير هذه الأرقام إلى أن 50% من الأطباء، و23% من المهندسين، و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون الى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا. كما يشكل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا نحو34% من مجموع الأطباء العاملين فيها.
وحتى تكتمل الصورة بوضوح، أظهر تقرير للجامعة العربية أن الدول العربية تنفق دولاراً واحداً على الفرد في مجال البحث العلمي، بينما تنفق الولايات المتحدة الأمريكية 700 دولار لكل مواطن، والدول الأوروبية حوالي 600 دولار.
من الضروري جداً الرعاية التامة لكافة المبدعين حتى لا يتحول العلماء إلى عملاء، فطريق الألف ميل يبدأ – يا حكوماتنا – بميل.
– آلجي حسين