يحفل الواقع الخليجيّ بالكثير من المستجدّات، التي تفرض على المثقّف أن يقوم بدوره الموكول إليه، والتوكيل هنا هو ذاتيّ أوّلاً وأخيراً، ذلك لأنّ المثقّف، باعتباره الطليعة الواعية في المجتمع، ولحساسيّته تجاه المتغيّرات والمستجدّات، فإنّ تفاعله يكون أسرع وأبكر من الإنسان العاديّ، يتأثّر المثقّف بكلّ ما يدور من حوله، وما يدور في فلكه، وينقل ذاك التأثّر تأثيراً إلى متلقّيه
ولأنّ المثقّف مدعوّ للمشاركة في مجتمعه بقوّة، عبر الآليّات التي ينتهجها أو يعتمدها في أدائه لدوره المطلوب منه، أو ذاك المنتظَر بحكم تأثيره الفعّال، وتواجده الدائم المفترض قريباً من هموم الناس، وباعتباره معبّراً عن طموحاتهم وآمالهم في الجوانب الثقافيّة والمجتمعيّة، فإنّه يتحمّل عبئاً كبيراً بمتعة المحبّ الذي يسعد لخدمة محبوبه. ولأنّ المثقّف هو ضمير أمّته النابض، فإنّه يمارس دوره التنويريّ الداعم لدور المؤسّسسات الثقافيّة والرسميّة، سواء كان داخل المؤسّسة نفسها، أو خارجها، يكون دوره مكمّلاً لها، ومنصبّاً في بحر التأثير الإيجابيّ المنشود
رهانات عديدة تنتظر المثقّف الخليجيّ، وهي تتبدّى مِحكّاً حقيقيّاً، منها المساهمة بقسطه الوافر في تبديد اللَّبْس الذي يلازم بعض الحالات والسلوكيّات، وكذلك استجلاء مختلف الجوانب حول ثقافة الاستهلاك الخطيرة، التي تشكّل تحدّياً حقيقيّاً، وخطراً مستقبليّاً، يتوجّب التحذير منه ومن آثاره المحتملة. ذلك أنّ التحذير من كوارث مستقبليّة يتوقّف على القراءة الصحيحة من قبل المثقّف للأزمات المحتملة، وبالتالي يكون الاستقراء في بعض جوانبه استشعاراً هامّاً، قرع جرس الإنذار قبل وقوع أيّة مشكلة لإمكانية تفاديها، أو التخفيف من تداعياتها، ومنطلق المثقّف ومنتهاه، التركيز على بناء الإنسان، الذي هو غاية كلّ فعل
لا شكّ أنّ المثقّف مطالب بالتزامات تجاه نفسه أوّلاً، ثمّ تجاه جمهوره ومتابعيه، وبالتالي تجاه مجتمعه، بعيداً عن أيّة فئويّة أو احتكار، لأنّ الثقافة عالم الحرّيّة المسؤولة، وهذه المسؤوليّة تلقي بالواجبات على كاهل المثقّف الذي يبقى في الريادة والواجهة. كما يُبتغَى من المثقّف أن يفي بالتزاماته تجاه المجتمع الذي أفرزه، وتمثيل رؤاه وتطلّعاته، لا التحليق بعيداً في برج عاجيّ، بحيث يغدو مع تقادم الأيّام غريباً عن مجتمعه، ويفقد صلة الوصل به، في الوقت الذي ينتظَر منه أنّ يكون في قلب الحراك الاجتماعيّ، وفي طليعته
ومن المسؤوليّات التي تنتظر من المثقّف المساهمة المباشرة، التأكيد على الهويّة، وعدم الانسياق وراء الاستهلاكيّ، ولا وراء تلك الدعوات التي تتجمّل ببهارج الكلام، فتفقد معها الشخصيّة الخليجيّة كينونتها، وبالتالي تصبح تابعة للوافد والمستغرَب، وهذا ما يشكّل رهاناً وتحدّياً
وللأمانة فإنّ المثقّف الخليجيّ يتمتّع بالمسؤوليّة تجاه ثقافته وهويّته ومجتمعه، ويمكن تلمّس تأثيرات هذه المسؤوليّة وارتداداتها الإيجابيّة في مناحٍ مختلفة، ففي حقل الرواية مثلاً، يجاهد الروائيّ لتفكيك بنى مجتمعه، مسلّطاً الأضواء على بعض مكامن الخلل، بغية الإصلاح، ويكون في استعراض المظاهر المعيشة، أو المتخيّلة، مقاربة للواقع، ومعالجة في الوقت نفسه. وكذلك يكون تأثير الشاعر والقاصّ، وكلّ واحد منهما يجاهد ليكون ضمير أمّته، وصوتها الصدّاح. وفي بضع السنوات الأخيرة، يبدو تأثير الدراما متقدّماً باطّراد، لأنّ الدراما قريبة من الشرائح الاجتماعيّة كلّها، وتحظى بالجماهيريّة والمتابعة، ويمكن أن تشكّل وسيلة تأثير إيجابيّة، حين تستغلّ في الكشف عن بعض الأخطاء، بالتوازي مع إظهار المشرق والزاهي في التاريخ والواقع، ومع المحافظة على العادات والتقاليد، منطلقة من ثقافة المجتمع ومجسّدة لها
وكي لا نحمّل المثقّف أكثر من طاقته ومقدرته، فإنّه يحتاج إلى دعم ومساندة، ليؤدّي مهامّه على أكمل وجه، والرهانات والاستحقاقات الكبرى بدورها تحتاج إلى تضافر الجهود من المثقّفين ومن مختلف الهيئات والمؤسّسات الثقافيّة، لأنّها تشكّل جسر الدفاع الأوّل، وحاجز الحماية الرئيسيّ. وهنا يبدو المثقّف الخليجيّ محظوظاً إذا ما قُورن بغيره من المثقّفين العرب، إذ يلقى الدعم والمتابعة والمساندة من المؤسّسات الرسميّة، التي تسعى لتشجيعه، وتفسح له مجالاً للظهور، ويكون التشجيع ملازماً وفعّالاً من خلال القوّة الذاتيّة الكامنة، والإرادة الساعية للعب الدور المأمول، ذلك أنّ تشجيع الحرّيّة والإبداع، ودعم المبدعين، يؤمّن ميداناً رحْباً للثقافة والمثقّفين. وهنا لابدّ من التذكير بالدور الرياديّ لدولة الكويت في دعم المثقّفين، وإيلائهم الأهمّيّة، حث كانت قد أطلقت العديد من المبادرات التي تطوّرت، وشكّلت ذاكرة ثقافيّة يعتمَد عليها، وقد برز اهتمامها بالمثقّف العربيّ عموماً، وكانت حاضنة للفكر والثقافة، ولا يزال دورها في تنامٍ جليّ، كما أنّ لمثقّفيها تأثيراً تنويرياً على منطقة الخليج. وقد تمّ تخصيص جوائز للمثقّفين في مختلف المجالات والاختصاصات، وهذه الجوائز تكون تكريماً له، وتقديراً لجهوده في خدمة مجتمعه
مهما يكن مقدار ما حقٌّقه المثقّف الخليجيّ عموماً، يبقى المأمول منه كثيراً ومستجدّاً ومتواتراً تبعاً للمستجدّات المعاصرة، والتسارع الذي يكاد يغدو سمة عصر السرعة، الذي قد يجد المثقّف المتراخي نفسه على الهامش، أو يكتشف انحسار دوره، وهذا بدوره مكمن الخشية وبؤرتها في آن، ولأنّ الواقع يعجّ بالجديد دوماً، فإنّ هذا الجديد يلزم المثقّف باتّخاذ موقعه وموقفه، كما يلزمه بالاستنفار الدائم ليكون جديراً بالمسؤوليّة التي يحملها، والتي تستدعي منه التطوّر الدائم، والمتابعة الحثيثة
عبدالله ميزر –