هو المكان الذي يذكرك بالماضي وأنت تعيش الحاضر، ثم ينقلك إلى المستقبل بلمحة خاطفة إلى ذلك الخيط الشفاف بين الحجارة التي تربط هذا البناء المتماسك
في دولة الإمارات، ثمة ما يجمع بين التراث والمعاصرة في ثقافتها العمرانية، وهذا ناتج عن ذلك المزيج بين الأسس التقليدية والوسائل الحديثة في عملية البناء التي تنتج بيئة مكانية يمكن اعتبارها مؤلفة من ثقافات متعددة تتجانس لتشكل بنيتها وفلسفتها المكانية في قطع الديكورات المتناغمة مع ما حولها من شوارع وفضاءات أخرى
فالإنسان ابن بيئته الزمانية والمكانية، وينطلق من هذه البيئة إلى عوالم أوسع، وفي كثير من الأحيان يكون المكان هو البطل الأوحد في حياة أغلبية الشخصيات التي صنعت مدارات خاصة بالأدب والفكر والفن والمعرفة، ليبدو هذا المكان جزءاً لا يتجزأ من أية حقيقة كونية اكتسبها الكائن بداخلها
فرغم العمر القصير للبناء العمراني في الإمارات، إلا أنها استعانت بكبار المهندسين الأوروبيين واستفادت من أفكارهم ومزجت بينها وبين أفكار الأصالة الشرقية والعربية خصوصاً، للتوصل بالتالي إلى ثقافة متعددة الفهم والإدراك، وإلى صورة جمالية جعلت هذه العمارات آيات في الجمال
أشكال متمايزة، أحجام مغايرة، ألوان متشعبة، أطوال متباينة، تصميمات فريدة، كل هذه لتبدو الصورة أقرب إلى ذهن ونظر المار من بينها وحولها، ولكن ثمة حميمية اخترعتها هذه الأيادي في قربها من بعضها بعضاً رغم اتساع مدى الشوارع وطرق المواصلات، وحتى وإن كانت ذلك، إلا أن شدة الاختلاف جعلت هذه الأيادي تبتدع لغات معمارية فريدة بأفكار هندسية لم تستثنِ الإنسان من حساباتها مطلقاً
صحيح أن الزوايا والمستطيلات وأرقام الرياضيات ورموز الديجيتال تسيطر على نسبة كبيرة من هذه الأبنية، إلا أن بعض الخطوط المنحنية والدوائر سيطرت على الجانب الآخر، فلكل بناء ثمة ما يميزه، وهو ليس مجرداً من الحركة، فقد تكون لمسة واحدة أو حركة واحدة من طرف مهندس البناء تقضي على ذلك الصمت الخاص بالبناء، ويخرجه من إطاره الجامد نحو عالم الحركة رغم سيطرة بعض مظاهر الصخب على العديد منها، ولاسيما في إمارة دبي، وهذا الصحب مقصود بطبيعته، كون عوالم الحركة في هذه المدينة تضج بشراً ومكاناً
حقيقةًًُ، ليس من خصوصية مطلقة لكل إمارة تميزها عن غيرها، عدا عن وجود الكثير من الخصائص المتفردة التي تتفرد بها كل إمارة من الإمارات السبع
أبوظبي، العاصمة، تعيش في هدوء سكني عمراني بنائي بيّن، وفي تناسق وانسجام لوني غير متسق، كل هذا تماشياً مع الأشكال والرسومات والمعالم العمرانية التي يكسوها طابع غير متكلف، بل معبر وجميل، لتشكل أيقونات تبدو في غاية الروعة، تنحدر بطبيعتها إلى الأبنية غير المرتفعة، ويتجلى ذلك واضحاً في الأبنية الحكومية التي يغلب عليها الطابع الملتزم مع بعض الحركة الانسيابية في المداخل والمخارج والأدراج وحتى المصاعد، وكذلك الفيلات السكنية التي تتباهى بها هذه المدينة في شدتها اللونية والتصميمية التي تعكس جوانية الإنسان في سعيه إلى الكمال الجمالي
هذا قد يتطابق بشكل أو بآخر مع معالم إمارة دبي العمرانية، فمنذ بدء تشكل الحضارات، أخبرنا علماء الاجتماع والإنتروبولوجيا أن الحضارة تساوي الثقافة مضافةً إليها المدنية، أي الحضارة تعني الجانبين المادي والمعنوي، ولأننا نتحدث عن الجانب المادي لهذه المدينة، هنا تتمايز أطوال الأبراج وتتباين، وبالتالي يتم تقسيم المناطق وما بداخلها إلى أبنية متعددة الأحجام والأشكال، فثمة امتداد عمودي واضح هنا عكس إمارة أبوظبي التي تنحو صوب الاتجاه الأفقي أكثر. وما يميز دبي أيضاً، هذه الإطلالات المتباينة لترسم في الفضاء الإماراتي وسمائه أعمدة غاية في الجمال العمراني للناظر إليها من أسفل وأعلى
في حين تتجه الإمارات الأخرى إلى أسلوب عمراني أقل تصميماً من أبوظبي ودبي، رغم أن إماراتي الشارقة وعجمان لا تقلان هندسياً عن سابقتيهما وقربهما من التصميم الإسلامي للتراث الحضاري الإنساني القائم على دلالات إيمانية مجسدة برسومات وطرز وزخارف دينية تبرز جماليتهما الواضحة، فضلاً عن خصائص متفردة لكل من رأس الخيمة وأم القيوين والفجيرة اللاتي تنحو أكثر باتجاه التوازن العمراني الأفقي والبيت العربي الشعبي الذي نفتقد دفأه في أيامنا هذه
ولأننا تحدثنا عن موضوع الحركة في البناء، فهناك وفي كل برج سكني أو تجاري ما يميزه عن غيره، فبرج خليفة التي يتوسط دبي شامخاً ما هو إلا دليل حي على المغامرة الهندسية الإنسانية التي تجمع بين كافة الأشكال الهندسية من مربعات ومستطيلات ومثلثات وداوئر، فضلاً عن متوازيات أضلاع ومنحرفات أخرى لا مثيل لها في الهندسة الفراغية ربما، ولعل هذه التناغمات في التصميمات أضافت إليها هذه السمات إذا استثنينا ارتفاعه الشاهق، وحتى أبراج الإمارات يبدوان مثالين جديدين في تناغمية الرؤية التقابلية بين مبنيين ينظران إلى بعضيهما بعضاً، وكذا برج العرب الذي يتخذ من زخرفة الهندسة مبدأً له… لن أكون هنا في وارد ذكرها كلها، بل مررت على بعضها كأمثلة.
إذاً، طبيعة المكان نفسه وإيحاءاته تعكس طبيعية وثقافات الناس المقيمين بداخله، فهام أكثر من مائتي جنسية تعيش في دولة الإمارات، ومن الطبيعي إن يعكس المكان هؤلاء، سواء في القوميات والأديان أو حتى في الناحية السيكولوجية داخل البناء نفسه، مستفيداً بشكل بالغ من مدارس الفن التشكيلي
للمكان هنا رائحة خاصة! حتى أن قرية التراث في دبي تعود بك إلى الماضي الخليجي في بيوتاته العربية الحميمية وهي تسحرك وتدخل إلى ذاكرتك الشمية الكثير الكثير من الماضي العابق بالحب والأمل والتراث
وما يهم أيضاً النظر إلى هذه الأماكن دون تجريد، فقد صُممت لها إضاءات وقطع ديكورية تظهر عظمتها وفخامتها وأيضاً رهبتها، ليبدو الإنسان صغيراً أمامها، وفي الوقت نفسه كبيراً، فهو من ابتدعها هذا العمران، فهو يحاكي نفسه وجسده ونظره، وينقلها إلى فضاءات تتسم بالرحابة والهدوء وبعض الصخب والكثير من الحركة
هي الحياة التي يعيش بداخلها البشر في أبنية ضخمة ذات مداخل مهيبة مع فراغات أكثر اتساعاً، هي دلائل على عظمة الإنسان الذي أجاد في بنائها حجراً فوق حجر، وكذلك إرادة جامعة بين فكر خطط للتنفيذ وأياد عاملة نسجت هذا البديع العمراني الجميل
لذا، أعتقد أن كلمة جمال بمفهومها المطلق تكفي لإطلاقها على ثقافة وفلسفة المكان في دولة الإمارات العربية المتحدة
آلجي حسين –
Alchy-husein@hotmail.com