هذه قصة وطن بعيدا عن وطني. سويسرا وقد بدأ ارتباطي بها في وقت مبكر من حياتي وأنا مازلت حديثة العهد بالدنيا، حيث ولدت في مدينة جنيف حينما كان والدي يكمل دراساته، (وكذلك تمت ولادة إخوتي الأربعة الآخرين في سويسرا) ولا أنسى ارتباطي الخاص بهذا البلد الرائع، قضيت طفولتي الأولى هناك حتى حصل والدي على درجته العلمية وخلال كل فصل صيف نزور البلد منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا، فرغم أنه ليس بالمكان المثالي لقضاء فصل الصيف (مثل مدينة كان الفرنسية مثلا) إلا أنه يعني الكثير بالنسبة لي ولعائلتي، ولم نكن نعي أن سويسرا سوف تعني لنا الكثير ولن تقتصر أهميتها على كونها مجرد وجهة للعطلة الصيفية.

في 2 أغسطس من عام 1990 كنا نقضي فصل الصيف في مدينة صغيرة في سويسرا تسمى رول، حيث اعتدنا أن نقضي صيفنا هناك منذ عدة سنوات، ولم تكن المدينة سياحية بالصورة المثالية ولكنها كانت مثالية بالنسبة لنا، كنت أركب أنا وأصدقائي وإخوتي الدراجات ونلعب في المتنزهات ونسبح في البحيرة ونركب الدراجات من جديد، فقد أحب الأطفال هذا المناخ وتلك الطبيعة، وكان هناك عدد كبير من أقربائي يقضون عطلتهم في هذه المدينة وبالتالي فقد كانت نعمة لنا إذ جمعتنا معا خلال ذلك الوقت العصيب.

في ذلك اليوم كنت قد استيقظت للتو من النوم وتمشيت عبر غرفة المعيشة فوجدت مربيتنا واقفة متسمرة أمام الأخبار التلفزيونية وبحثت عن والدتي دون جدوى، وعندما أدركت أنني أقف بالبيجاما بانتظار تناول الإفطار قالت المربية مستغربة "انظري يا علياء، لقد اجتاح العراق الكويت، انظري لقد شنت حربا"!! وكنت حينها في السادسة من عمري، ولم يكن لدي أدنى فكرة عما يكون العراق ومن يكون صدام وما هي الحرب؟! لم أكن أعرف كيف كان الموقف تدميريا، وتخيلت رجالا يحاربون بالسيوف والأقواس والمدافع، وأتذكر ذلك الشعور الغريب الذي شعرت به يسري في معدتي، لم أكن حزينة ولم أكن سعيدة أيضا، وقد أدركت أن هناك خطبا ما وشعرت بالارتباك والتشويش، لم أكن مبالية بالأمر وتوجهت للبحث عن شيء أتناوله، ولم يخطر ببالي أن والدي مازال بالكويت.

كان والدي يقوم ببعض الأعمال ولم يصطحبنا خلال ذلك الصيف، وكان أقربائي وأصدقائي يعيشون في نفس المبنى والمباني القريبة ولكن الغالبية العظمى من عائلتي كانت لا تزال في الكويت، وبعد عدة أيام من الغزو غادرت جدتي وخالتي الكويت وتوجهتا إلى المملكة العربية السعودية، بينا رفض والدي وجدي مغادرة الكويت تماما مثلما فعل خوالي وعمامي وكل شخص وقف بجانب أبي.

نظرا لأن الموسم المدرسي كان على وشك البدء فقد تطوع البعض لتعليمنا نحن التلاميذ في فصول دورية في السفارة الكويتية، وبعد ذلك وحينما أثبت ذلك أنه غير عملي بعض الشيء ومع ازدحام السفارة بسبب العمل قام بعض الآباء بتسجيل أبنائهم في المدارس المحلية.

أما بالنسبة إلى المقيمين في رول فقد تطوعت نساء سويسريات قلائل لتعليم التلاميذ الكويتيين في منطقتنا، وقد عرض المسئولون في المدينة بعض الغرف في قلعة المدينة المحلية – وهي معلم تاريخي بارز – حتى نتعلم فيها، وقد تم تقسيمنا إلى 3 فصول مدرسية مختلفة وكنا نتلقى دروسا في الفرنسية (نظرا لكوننا في قطاع سويسري يتحدث الفرنسية)، وبعد مرور عدة أشهر جعلنا مدرسونا نقدم عرضا مسرحي وطني للكويت، وأتذكر تماما حينما كانت أمي والأخريات يبكين ويصفقن في نهاية العرض.

بالنسبة لنا كأطفال كانت الحياة سهلة، فلم نكن لنفهم الأشياء التي يفهمها الكبار، ولذلك كنا مشغولين بما نعرفه وهو اللعب، وكانت النساء يتجمعن يوميا في منزل مختلف كل مرة من أجل قراءة القرآن الكريم والدعاء للكويت، وما أدركته الآن أنه بالنسبة إلى الكبار كان الموقف محزنا لأنهم لم يعرفوا أي شيء عن مستقبل ذلك البلد.

كان الكثير من الأسر في حال ميسور ولكن بعد الحرب جمدت جميع الأصول في المصارف الكويتية، وكانت السفارة الكويتية تسلم الأموال إلى الكويتيين من أجل توفير المعيشة لأنفسهم وعائلاتهم، وأخبرتني خالتي أنها بكت في البداية حينما سلمها مسئول في السفارة مظروفا به بعض المال، وقالت أنها لم يسعها تصديق أنه في خلال يوم واحد تنقلب حياتك رأسا على عقب، ولم تصدق أننا أصبحنا منذ ذلك الحين لاجئين!!

كنا قد اعتدنا على عيش حياة كريمة في الكويت مع وجود مدبرات المنزل والطهاة والسائقين ولكن الآن على الأمهات التنظيف والطهي وأخذنا إلى كل مكان، لم تكن تلك عطلة على الإطلاق، كانت تلك هي الحياة في دولة أجنبية، ولم نعرف كم سيدوم عيشنا هناك، وكيف ستتمكن والدتي من إعالة 4 أطفال دون سن السابعة من دون وجود زوجها؟ وحتى الآن لم أعرف كيف فعلت ذلك، وأتذكر كيف كانت تبكي لعدم معرفتها كيف كانت الأمور تجري مع والدي.

أقمنا في سويسرا لمدة عام ونصف العام قبل عودتنا إلى الكويت، وحينما أعلن أخيرا تحرير الكويت لم يسمح لنا والدنا بالعودة إليها على الفور بسبب أن الجو كان مشبعا بالتلوث ولم يرد لنا أن نرى الدولة وهي مدمرة بهذه الطريقة، لا أتذكر كثيرا بعد ذلك سوى أن والدي فاجأنا بزيارة وانفجر أخي بالبكاء لدى رؤيته إياه، وأدرك أنه لم ير والده منذ ما يزيد عن عام، وكانت تلك إحدى أهم لحظات حياتي وأروعها على الإطلاق.

حتى الآن تفيض عيني من الدمع حينما أتذكر تلك الأحداث البشعة التي جرت، وأبكي على من فقدناهم، وأبكي على من أصيبوا، وأبكي على الأرض، وأبكي على بلدي، وفي بعض الأحيان أفكر لو كنت أكبر سنا في ذلك الوقت ماذا كنت لأفعل حينها ؟

لا أعرف الحقيقة فعلا، ولا أتخيل العيش في الغزو يوما واحدا لا سبعة أشهر، ولم أعرف أبدا مساوئها حتى كبرت في السن، ولازلت أتعلم أشياء جديدة حول الغزو وهي أشياء لم أسمع بها من قبل، وعرفت أن جدتي أخذت أسيرة كما أن منزلنا كان ملاذا للجنود الكويتيين المطاردين، وعرفت كذلك أن والدي كان أشجع إنسان عرفته، ولكن أهم من كل ذلك فقد عرفت أنه مهما طالت الحرب فإن خسائرها تبقى كما هي، من الناحية البدنية والعاطفية والبيئية تحت وطأة الاغتصاب والقتل والتلوث والسب والنهب، وهذه الأمور تحدث في أي أمة ممزقة بفعل الحرب، ولا يمكن على الإطلاق محو آثار الحروب، ولكن مع مرور الوقت وبفضل الله عدنا من جديد لاستئناف حياتنا.

على الرغم  من ذلك عرفت أنه حينما حان الوقت للعودة إلى الكويت كان قلبي يملؤه شعور لا يوصف على الإطلاق لأننا نعرف مقولة "الوطن حيث هو القلب".

وأنا كنت عائدة إلى وطني.

– علياء العثمان.

0 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You May Also Like