خلال السنتين اللتين عملت فيهما لدى شركة اي جي اي اركيتكتس الهندسية العالمية، كان أكثر ما يفاجئني خلال تلك التجربة هو كم الوقت الهائل الذي يستغرقه الإعمار الجيد في صنعه. بخلاف الفكرة السائدة لدى العامة والتي ترى في المهندس المعماري شخصاً ذو رؤية فنية قادر على رسم المخططات الجميلة، إكتشفت بأن المعماري أولاً وقبل كل شئ شخص مهتم بكافة التفاصيل يوجد الحلول المناسبة لأي مشكلة. ولو كانت هناك مشكلة واحدة هي أكثر ما تنشغل شركة اي جي اي اركيتكتس الهندسية على التعامل معها ومعالجتها فهي مستقبل الإسكان في دولة الكويت.
تأسست شركة اي جي اي اركيتكتس الهندسية العالمية في العام ٢٠٠٥ لتتخذ لها مقريّن في كل من الكويت ومدريد. تتعامل شركة اي جي اي اركيتكتس مع مشكلة السكن بطريقة مذهلة إذ تتناولها من جوانب عدة وزوايا مختلفة، فمن المشاريع البحثية وتوسيع الفلل الى المجمعات السكنية والأبراج ذات الأربعون طابق، نعم إستطاعت اي جي اي اركيتكتس من إبتكار حلول إسكانية متعددة بمقاييس مختلفة و لعدد كبير جدا من العملاء. حينما يتعلق الأمر بمواجهة مشكلة كبيرة مثل قضية الإسكان في الكويت فإن إتباع سياسة نهج العمل طويل الأجل ذو المراحل المتعددة هو أمر ضروري بل وأساسي. مما يتضح فأن "العمارة" ليست إلهاماً آلهياً للإبداع بل هي مجموع المجهودات الثابتة والمخلصة التي يبذلها محترفي هذه المهنة.
تروي لنا مراحل العمل الثلاث ابتداءاً من البحث إلى التصميم ثم البناء حكاية الإعمار لدى اي جي اي اركيتكتس ومستقبل الإسكان في الكويت.
يجب أن ندرك بأن أي محاولة تُبذل تجاه حل الإحتياجات الإسكانية لابد أن تبدأ بفهم شامل ومتكامل للمشكلة نفسها. شريفة الشلفان وهي باحثة رئيسية لدى شركة اي جي اي اركيتكتس في مشروعهم البحثي المنتهي حديثاً والذي يحمل عنوان "مساحات الحياة". تكتب قائلةً "بأن الحل المنشود يجب أن يكون مرتبطاً بالبيئة الإجتماعية، مبنياً على أساس ثقافي، ومندفعاً تجاه نفس السياق." بناء على ذلك تشجعنا شريفه ومن يتعاون معها إلى التفكير خارج الهوس الذي يسيطر علينا حالياً بضرورة إمتلاك المنازل الخاصة بنا "الفلل" في ضواحي الكويت.
لابد وأن يُستبدل هذا الفهم المحدود بفهم عملي لماهية العيش الحقيقية لكل واحد منا. ولتحقيق ذلك قام مشروع "مساحات الحياة" بعمل استطلاعات ميدانية على العديد من المنازل في الكويت مستكشفاُ مساحاتها وأساليبها المتبعة في تخصيص المساحات الخاصة بالضيوف وأفراد العائلة، الشقق المستقلة وسكن العمالة المنزلية وغيرها من التفاصيل. تمتاز حياتنا الإجتماعية في الكويت بكونها معقدة وديناميكية لذا فإن أي حلول معمارية تهدف لإيواء كل هؤلاء البشر لابد أن تكون معقدة وديناميكية كما حياتنا.
فعلى سبيل المثال تُحدد لنا شريفة ستة مستويات من الخصوصية والتي يجب أن تتوفر في كل منزل او شقة لتلبي احتياجات أي أسرة كويتية نموذجية. موازنة هذه الحاجة الى الخصوصية هو ايضاً الحاجة الى مجتمع مترابط وحيوي يعود تاريخه الى حقبة ما قبل اكتشاف النفط في الكويت. بمجرد ان يتحقق هذا الوعي الشامل بالاحتياجات المكانية الفعلية، فأنه سيؤدي بطبيعة الحال الى ابتكار طرقاً اساليب جديدة في تصميم المساحات والمباني التي نعيش فيها.
لابد أن تُترجم المعرفة التي نحصل عليها من البحوث الى تصاميم معمارية ملائمة للعيش. ولفهم هذه العملية تحدثتُ إلى عائشة الصقر المدير الإداري لمكتب شركة اي جي اي اركيتكتس بدولة الكويت. بدأت عائشة بشرح التغيّر الحاصل في عقلية وتفكير الجيل الجديد من الأسر الكويتية الذين بدأوا بإدراك حقيقة صعوبة الحصول على المساكن الحكومية التي قد تستغرق عملية الاستحصال عليها عقوداً من الزمن، كما ادركوا بأن موضوع امتلاكهم لفيلا خاصة بهم خلال الوقت الحالي أصبح أمراً صعب المنال. ونتيجة لذلك حصل تحولاً كبيراً في تصميم الفلل في الكويت إذ يتجه الناس نحو الفلل متعددة الاجيال – بنظام الشقق – والتي تُصمم لإيواء أكثر من عائلة كالأبوين وتفرعاتهم من أسر الأبناء.
إستجابت شركة اي جي اي اركيتكتس لهذه الظروف الجديدة وعلى عدة مستويات، فعلى نطاق صغير نجد لدى الشركة مشاريع نموذجية كمشروع "النواة الخضراء Green Core" وهو عبارة عن مبنى سكني بحجم الفيلا الإعتيادية يقع في منطقة العديلية يحتوي على 6 شقق مستقلة تشترك جميعها بمدخل رئيسي واحد. وفي نطاق اوسع نجدها تعمل على مجمعات سكنية ضخمة مثل تمدين سكوير، فوزك كامبس (أرض فوزك)، والوفرة ليفنغ. توضح عائشة بأنهم يراهنون في عملهم على توجه للعديد الأسر الكويتية الأصغر سناً للعيش في مثل هذه الشقق خلال الوقت الحالي. فمن خلال هذه التصاميم المتطورة والحديثة، نؤمن بقدرة شركتنا على كسب هذا الرهان، إذ توفر تصاميمنا للمقيمين فيها كافة التسهيلات للمساهمة والاندماج في مختلف الانشطة الإجتماعية وجعلها أُسراً أكثر تماسكاً وترابطاً بمجتمعها.
الأمر ببساطة أكثر من مجرد خدمة المقيمين في هذه المشاريع بل أن طموحنا النهائي من ورائها يتمثل برغبتنا في تطوير توقعات الناس حول ما يجب ان يكون عليه شكل المعيشة المشتركة. وربما حتى المساهمة في رسم السياسات العامة للبلدية مستقبلاً.
إذا استطاعت البحوث من تحديد المشكلة وتمكن التصميم من توفير الحل، فإن العمران هو من يستطيع تحويل هذا الحلم الى واقع ملموس. إلا ان البناء عملية فوضوية يصاحبها الكثير من الضغوط والتي غالباً ما تُخرج التصميم عن جوهره. وفي سبيل مكافحة ذلك يجب على المهندسين المعماريين التواجد في الموقع لقيادة عملية البناء وتصحيح أي أخطاء قد تشوب العمل. ولمعرفة المزيد عن هذا الموضوع زُرتُ موقع عمل وفرة ليفنغ الخاص بشركة اي جي اي اركيتكتس وألتقيتُ هناك بالمهندسيّن المعماريّن جان أوكار ولويس غارسيا.
تمشينا عبر موقع العمل الصاخب، حيث هيكل المبنى على وشك الإكتمال، تحدثا إليّ كُلاً من جان ولويس عن كم القرارات التي لاحصر لها اللذيّن يضطران إلى اتخاذها يومياً للتاكد من تنفيذ المشروع على أكمل وجه. كما أطلعوني على عدة تفاصيل من موقع العمل على سبيل المثال نموذج جداري للتغليف الذي سيكسو جدران المبنى لاحقاً، وعلى المسامير الهيكلية التي تربط الإطارات الفولاذية ببعضها البعض، كذلك المدرجات المنحدرة في فضاء الطبيعة. واصلنا المسير في أرجاء الموقع وكثيراً ماتوقفنا لمناقشة المشاكل التي تمكنوا من حلها بالفعل وتلك التي لم يتم حلها حتى الآن او تلك التي يسعون الى تفاديها مُستقبلاً.
لمّا يكتمل مشروع وفرة ليفنغ ويبدأ سُكانه بتجربة نوعية مساحاته الإستثنائية، فأنهم حتماً سيجنون ثمار الجهد والعمل المضني الطويل الذي قامت به شركة AGI بهدف فهم الإحتياجات الإسكانية الحالية في الكويت والخروج بتصاميم متميزة صالحة للعيش تُرضي جميع القاطنين فيها، إضافة للخبرة التي صاحبت عملية تشييدها. لن ترتسم ملامح المستقبل الإسكاني في الكويت إلا بهذا المستوى من الالتزام بالأسلوب المعماري الجيد.
كلمات علي اليوسفي
اي جي اي اركيتكتسصور