يبدو أن الطعام ومن ضمنه المأكولات بمختلف أنواعها من الخصائص الثقافية للشعوب، التي تتميز بدورها من خلاله في طبيعة الأنشطة المتعلقة بهذا المكون الثقافي.

وقد يبدو مصطلح ثقافة الطعام غير وارد بشكل كافٍ في مجتمع يعد الثقافة متمثلةً في العلوم والمعارف والآداب والفنون فقط، أو هي التراث الثقافي للشعوب، أو ما يمتلكه المجتمع من تراث. لكن كيف سيكون الحال حين نطرق باب ثقافة المطاعم في دبي تحديداً؟

من قراءة أسماء المطاعم فيها سنتعرّف فوراً على الدولة التي أعطتها هذا الاسم وفتحتها، ومن تذوِّق هذه النكهات سنتعرّف على حضارة شعوب وثقافات تعيش تحت سماء دبي، لكن تبقى مسألة الإعجاب بهذه المأكولات متعلقة بالشخص وطبيعة تربيته وسلوكه الثقافي والحياتي، وهذا لا يعني أن الشخص مطلوب منه فقط أن يتناول طعام دولته فقط. كما تبقى هذه المطاعم أيضاً مرتبطة بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي للشخص.

جاءت الحاجة إلى هذه المطاعم بشكل طبيعي كعملية إشباع للمقيم في دبي، حتى لا يشعر أنه بعيد عن موطنه الأصلي، فالأطعمة كما قلنا تخبئ موروثها الثقافي في الذاكرة، ومن خلالها أيضاً يمكن للكثيرين أن يزوروا بلدهم، هي الرائحة التي نتذوق الثقافة من خلالها.

من مصري ومغربي ويمني ولبناني وسوري وأردني إلى هندي وأفغاني وباكستاني وفلبيني وإيراني وتايلندي مروراً بالتركي والأمريكي وغيرها، تفرض هذه المأكولات نفسها كثقافات تميزها عن سواها.

من الكوشري والمندي والزربيان والروبيان والشاورما والمحاشي واليالانجي إلى البرياني والكباب والكنتاكي.

لكل مطعم رواده، لكن هذا لا يمنع من التعرّف على ثقافات أخرى من متذوقين آخرين، وهي الحكاية المتعلقة بتذوقها، فقد تكون المرة الأولى أو الأخيرة، ففي المرة الأولى التي جربتُ فيها وجبة "الكوشري" المصرية، نبهّني زملائي المصريين أن مَن يأكلها يجب أن تكون معدته قوية، لكنني أحببتُ الاختبار.

نحن نتكلم عن المطاعم في مدينة تُعد الأكثر استهلاكاً للطعام والوجبات الجاهزة، في مدينة تتميز ببيئة عاملة ضخمة من فئات شبابية تستهلك هذه الوجبات ولا يتوفر لديها الوقت للطبخ، فعودةً إلى استطلاع لماستر كارد، نلاحظ أن المطاعم والترفيه هي في طليعة أولويات المستهلكين في الإمارات، فيقول الاستطلاع إن متوسط الإنفاق الشهري للمستهلكين الإماراتيين على تناول الوجبات في المطاعم بلغ 841 درهماً إماراتياً.

ثقافة الطعام هذه خالجتها الكثير من العوائق التي فقدنا بريقها كما كنا سابقاً. الآن، وعبر اتصال هاتفي مع المطعم وخلال دقائق تحصل على وجبتك، دون أن تعلم ما محتواها، وما هو نوع اللحم ومدى صلاحيته، ولعل من يعتاد على "أكل المطاعم" كما يُقال، لن يعود يشعر بهذه اللذة التي كان معتاداً عليها حين كان يجلس مع أسرته مجتمعةً حول مائدة واحدة، لقد فُقدت تلك الأيام في بلاد الاغتراب.

للمسألة جانب سيكولوجي وسوسيولوجي وكذلك إنثروبولوجي، فالطعام الذي نأكله له تاريخ لا يقلّ عن تاريخ الإنسان بحد ذاته، فهو انعكاس له منذ أن بدأ بابتداع الطهو واستعمال النار، ومنذ ذلك اليوم اعتبره علماء الإنثروبولوجيا من أهم الاختراعات البشرية على الإطلاق، أن يوقد للطعام نار، حتى نشعر بطعمه اللذيذ.

في دبي، لن يشعر ابن أي دولة كانت ببُعده عن موطنه، فثمة مطاعم ستخدمه، وربما من قراءة اسم المطعم سنعرف جنسيته، ومن أكثر الأسئلة التي تُسأل هنا هي تلك المتعلقة بجنسية المطعم، لكن هذا لا يمنع من أن يكون للطعام ثمة تبادلات أو تناغمات وانسجامات مع مأكولات أخرى من دول مختلفة، فطبيعة الرائحة نفسها تختصر علينا الكثير من المسافات حول جدوى ونكهة هذه الأطعمة. إذاً، هي الذاكرة الشمّيّة التي يحتفظ بها كل إنسان قادم من دولة أخرى.

في الحديث عن الذاكرة الشمّيّة، دائماً ما تُقترن البهارات والتوابل بالشعب الهندي، فهي تُعد، بحسب الكثيرين، جزءاً من ثقافتهم حسب دراسات تاريخية لم تكن اعتباطية، وحتى إن وسّعنا الحلقة أكثر، سيكون هناك بعض المأكولات الأخرى ذات الثقافة وذات الموروث المعشش في الذاكرة البشرية منذ الأزل، وفي هذه التراتبية، لن يكون موضوع الطعام من المواضيع السهلة في الطرح مطلقاً.

لن يكون خافياً على أحد أن مَن يعتاد على الوجبات الجاهزة، لن يكون مستعداً لعقد موعد مع راحة معدته، وهذا مؤكد، ليس من طبخة توازي طبخ البيت والأم، لكن الضرورات تبيح المحظورات في مجتمع استهلاكي سريع في حركته كالغيوم.

بطبيعة الحال، ثمة علاقة واضحة بينها وبين الوجبات السريعة التي واكبت المجتمعات السريعة الإيقاع أصلاً، لكن في المقابل من ذلك، جاء ذلك تناغماً مع اختلاط أو مزج عدة أطعمة سوية، فما أجمل هذه اللوحة: برياني هندي، كبسة سعودية، محاشي سورية، كباب أفغاني، فاصولياء تركية، مندي يمني، والأجمل من هذا، أن يجرّب كل واحد طعاماً من غير بلده، فكيفما تتلاقح الثقافات، ستكون البداية من الأطعمة، ليس لأن جميع المشاكل تُحل على مائدة الطعام، كما يقول المثل الإيرلندي، بل هي دعوة لعقد صفقات غذائية وموائد للألفة تحت راية الاستكشاف والمحبة.

– آلجي حسين

Alchy1984@hotmail.com

0 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You May Also Like