منذ أكثر من قرن أنجبت لنا أرض الهند في قسمها البنغالي روبندرونات تاكور أو من عرف  بأسم طاغور، ذلك الفيلسوف والشاعر والمسرحي الروائي، الذي تعددت نشاطاته وإبداعاته في أغلب مجالات الأدب فرصع أسمه بماس الموهبة وأضفى عليه بريق الشهرة والإعجاب في أكثر البقاع على وجه الأرض. كانت ولادته في عام 1861م في مدينة كالكوتا، كانت أسرته من طبقة ميسورة الحال، دأب أبيه في تعليمه هو وأشقاؤه وحرص على جلب المعلمين لهم، وكان لهذا التعليم الأثر الأكبر في ما ناله من مرتبة رفيعة في العلم، حتى أنه أستحق وبجدارة نيل جائزة نوبل للآداب عام 1913م، وقد أصبح لديه مدرسة فلسفية أسماها "فيسفا بهراتي" أو ما عرف مؤخراً بالجامعة الهندية للتعليم العالي.

تزوج طاغور وهو في الثانية والعشرين من عمره، وكانت حصيلة هذا الزواج ولدان وثلاث بنات، كما ان حياته الخاصة ساعدته على نظم الشعر المفعم بالحب والغزل لما تضمنته من هدوء وسعادة، ولكن الفواجع لم تترك له مجال للتمتع بهذه الحياة إذ توفيت زوجته التي كانت شرارة قلمه وحبه الصادق، ثم لحق بها ابنه وابنته مما سبب له الكثير من الألم، وفجر مكنونات أخرى في داخله أثرى بها الساحة الأدبية. بدأ طفل إبداعاته بالمشي في الثمانينات، ثم النطق بأول كتبه وهي مجموعته الرائعة "ماناسي" وقد كان إحتكاك طاغور المباشر بالبسطاء والفلاحين من خلال قضاؤه معظم وقته في قارب صيد مولد طبيعي لتساؤلات عديدة لديه، وأفكار جديدة كانت واضحة في كتاباته النثرية أو الشعرية، وكان جلي جداً مدى تعاطفه معهم، كما أنه في تلك الأثناء نشر العديد من الكتب لعل أهمها "القارب الذهبي" الذي عكس تلك  المرحله بشكل واضح، وكانت له العديد من المسرحيات التي أحدثت ذلك الزخم الجلي من المشاهدة والإعجاب من قبل العامة وأصحاب الفكر. لقد ترك لنا طاغور خزينة تطغى محتوياتها عن ألف قصيدة و٢٥ مسرحية و٨ روايات وقصص قصيرة، وهذه مقتطفات من قصائده:

أنا لا اظفر بالراحة .
أنا ظامئ إلى الأشياء البعيدة المنال .
إن روحي تهفو، تواقةً، إلى لمس طرف المدى
المظلم .
إيه أيها المجهول البعيد وراء الأفق، يا للنداء الموجع
المنساب من نايك.
أنا أنسى، أنسى دوماً أنني لا أملك جناحاً لأطير،
وأنني مقيد دوماً بهذا المكان.
إنني متّقدُ الشوق، يقظان، أنا غريبٌ في أرضٍ
عجيبة.
إن زفراتك تتناهى إليّ، لتهمس في أذني أملاً
مستحيلاً.
إن صوتك يعرفه قلبي كما لو كان قلبه.
أيها المجهول البعيد، يا للنداء الموجع المنساب من نايك!
أنا أنسى، أنسى دوماً أنني لا أعرف الطريق وأنني
لا أمتلك جواداً مجنحاً.
أنا لا أظفر بالطمأنينة.
أنا شارد، أهيم في قلبي.
في الضباب المشمس، من الساعات الضجرة، ما
أبهى مرآك العظيم يتجلّى في زرقة السماء!
أيها المجهول البعيد، يا للنداء الموجع المنساب من
نايك!
إنني أنسى، أنسى دوماً، أن الأبواب كلّها موصدة
في البيت الذي أفزع فيه إلى وحدتي.

……..

إيه أيتها الدنيا، لقد قطفت وردتك

وضممتها إلى قلبي، فوخزتني شوكتها،

ولما جنح النهار إلى الزوال، وامتدت العتمه،

ألقيت الوردة ذاوية بيد ان ألم وخزتها ظل باقيا،

إيه أيتها الدنيا، سوف يوافيك الورد بشذاه وعنفوانه،

ولكن أوان قطف الورد الذي كنت أتحينه قد فاتني،

وفي الليل الحالك لم اعد اظفر بوردة، فيما عدا ألم وخزتها الباقي.

……..

كان للألوان نصيب من ذلك الموروث الأدبي، فقد أتحفنا طاغور بالعديد من الرسومات التي حاكت المجتمع وجسدت الحالة السائدة آن ذاك، فكانت شفاة لمن لم يكونوا قادرين على الكلام وتعبير لمن خانتهم المعاني وروح لمن تاهت أرواحهم بين أروقة الحياة، وبين هذه الرسومات تتضح شخصيته وشفافية طرحه ومدى قدرته على ملامسة الواقع والهموم المثقلة، وهذه بعض لوحاته:

وأضافت فلسفته المتعمقة في كثير من الأمور إلى إستخلاص أقوال باتت حكم مؤثره ودروس أفادت الكثير من الناس، فإستخرجوا منها لآلئ حملت معان خالدة وصالحة لكل زمان ومكان ومنها:

– الفشل هو مجموعة التجارب التي تسبق النجاح.

– سأل الممكن المستحيل: أين تقيم؟ فأجاب: في أحلام العاجز.

– لا تستطيع أن تقلع عبير زهرة حتى ولو سحقتها بقدميك.

– الشمس تشرق دائمآ فلماذا الحزن الذي يأتي مع الليل.

– هل عندكم غبار في أعينكم؟ إذن من الأفضل عدم فركها. وإذا جرحتم بكلمات فمن الأفضل عدم الإجابة.

لم يترك طاغور مجالاً في الأدب إلا وانتابه الفضول لمعرفته فأبدع وبث أرائه فيه وأستنهض جهده في تطويره، كما أصدر العديد من الكتب التي أثر بها الفكر الفلسفي منها روايته الشهيرة "البيت والعالم" التي جعلته يحصل على جائزة نوبل للآداب، تلك الجائزة التي لا تعطى إلا لمستحقيها. كانت صفاته تتجلى في نبذه للتعصب سواء لدين أو لمذهب، كما أتضح من خلال رسوماته وأشعاره أتجاهه لحب الإنسانية بالإجماع دون تخصيص ذلك لشخص بعينه، أو أنحيازه لمبدأ البساطة في العيش. قضى أواخر حياته في التنقل من دولة لأخرى إما لأمسيات شعرية أرتبط بها أو لمعارض الفنون التي كان يشارك فيها، ورغم كل ذلك لم تغفل عينه عن تدبر شؤون مدرسته، فأنشأ جيل تشرب تجربته. أقتلعه الموت من ذروة مجده إثر عملية جراحية قام بها في مدينته التي ولد بها عام 1941م وهو على مشارف الثمانين من عمره، غيبه الموت وأنضب نهر عطاؤه المتدفق، وعزاؤنا يكمن في الإرث الذي تركه لنا فخلد ذكراه إلى الأبد.

– أحلام معوضة القحطاني

labanda_-11@hotmail.com

0 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You May Also Like