من الواضح أنه كلما توصلت البشرية إلى اكتشافات حديثة في الأبحاث العلمية، وحققت إنجازات في جميع المجالات، وخاصة المجال التقني، فإن الإنسان بقدر الاستفادة الكبيرة التي يحصل عليها، إلا أن هناك أضراراً تحيق به على الجانب الآخر منها، ويتوقف التأثير الإيجابي والسلبي لهذه التقنيات الحديثة على طبيعة المستخدم لها، فبعضهم يجني فوائد كبيرة منها، حيث يخصص وقتاً معيناً يطوّعها لخدمته في أعماله وحياته على نحو متزن، لكن رغم ذلك، هناك فئة -ليست بالقليلة- من الناس وصل بهم الأمر إلى حد الإدمان، بحيث يجد نفسه خارج محيطه الاجتماعي، الذي استعاض عنه بالبيئة الفيسبوكية أو التويترية أو بيئات أخرى، بعضهم على أجهزة اللابتوب أو الهواتف الحديثة بأشكالها المختلفة، وبالتحديد برز منها البلاك بيري، الذي انتقل من مرحلة الفائدة إلى مرحلة الإدمان الحقيقي، وجعل المستخدم ينسى كل ما حوله، ويسبح في عالم الرقميات غير المنتهي.

في مشهد لشاب خليجي في إحدى الدول الخليجية في مقطع فيديو على اليوتوب شاهدته مؤخراً، ربما المقطع تمثيلية، لكنه عموماً يرسم صورة حقيقية عما يحدث في الواقع، وتستحق الوقوف عليها، هذا الشاب ينزل من السيارة، ويمشي في الشارع وجهاز البلاك بيري في يديه، يكتب فيه، ويضحك، وينفعل من دون أن يلتفت حوله، يتحدّث معه شخص، لايردّ عليه، ولكأنه الوحيد في هذا الكون، ولا أحد من حوله يراه أو يحس به، ربما له الحق في ذلك، لأنه في عالم آخر، عالم الرقميات والاختصارات، ولكن الطريف يبدو أنه يتوجه لقضاء حاجته في الحمامات العامة، فبدلاً من التوجه إلى قسم الرجال، يتوجه إلى قسم السيدات، وفي الحقيقة لم يعترضه أحد، دخل بشكل طبيعي، وللحظة أحسّ أنه في مكان محظور له بالدخول إليه، وكانت يقظته على محيطه، والخروج من عالم البلاك بيري، عندما سمع صوت الحارس يتحدث مع الشرطة، والشرطة تتواجد أمامه في غضون لحظات قليلة. طبعاً هذه حالة من الحالات، وربما هي بسيطة مقارنة مع حالات أخرى، فهذا الشاب محظوظ في أن سيارة لم تصدمه أو أنه لم يصطدم على نحو عنيف بإشارة مرور أو يدلق على نفسه شيئاً ساخناً في أحد المطاعم أو غيرها، حينها تكون العواقب وخيمة، ولا يمكن لشيء أن ينقذ مدمن البلاك بيري من مصيبته.

هذه الحالة التي عرضتها إحدى الحالات التي نشاهدها ونعيشها يومياً، فالبلاك بيري قام بغزو حقيقي لحياتنا، وصرنا نستبدله بالكتاب، والتلفزيون، والكمبيوتر، والسينما، والتواصل الحقيقي مع الأصدقاء والأقرباء، وليس هذا فقط، بل بات العديد من الأشخاص يشعر بضيق من المستخدم للبلاك بيري، فعندما يتصل بك أو بالأحرى يكتب لك على الفيسبوك أنه قادم لزيارتك، ما إن يصل إلى منزلك، يحيّيك مع ابتسامة سريعة، ويكمل تواصله على البلاك بيري، ولا يتحدث معك إلا إذا أخبرك شيئاً عما يكتبه، وإذا حاولت أن تتحدث له عن شيء تعاني منه، لا يجد هذا الصديق المدمن على البلاك بيري، الوقت الكافي للاستماع إليك، ولكأن به مسّاً، فهو خارج نطاق التغطية كما يحلو للبعض قول ذلك.

حقيقة، باتت هذه الظاهرة منتشرة على أوسع صعيد في العالم بأكمله، ومجتمعات الخليج العربي من بين أكثر المجتمعات التي تقتني هذا النوع من الهواتف، وفي الوقت نفسه من أكثر المجتمعات تضرراً منها، خاصة إذا لم يكن هناك إحساس بالخطر عند الآباء والأمهات من أن هذه الهواتف يمكن أن تدمّر مستقبل الابن أو الابنة، والمصيبة الكبرى إذا كان الأب والأم من المدمنين على هذا النوع من الهواتف، ورربما-بحسب البعض- أن التواصل مع الأبناء عبر هذا النوع من الهواتف هو أفضل من الطرق المعتادة للتواصل، بحيث يمكنهم تقديم النصح لهم وإقناعهم بالاهتمام بشؤونهم الدراسية بعض الوقت، طبعاً بحيث لا يصل الأمر بالوالدين إلى الإدمان، فينسيان أبناءهما وأنفسهما.

إن "البلاك" في اللغة الإنجليزية تعني اللون الأسود، و"بيري" تأتي بمعنى التوت، فتصبح التوت الأسود أو العليق، ويروق للبعض ترجمتها بالعنب الأسود، وبالنسبة لنا فهي ليست فاكهة نأكلها، بل نوع من الهواتف يأكلنا إذا جاز التعبير، أو بالأحرى يلتهم لحظات حياتنا الغالية، التي لا تعوّض، بالإضافة إلى ذلك تخلق الجفاء الاجتماعي، ويمكن لها أن تعود بأمراض متعلقة بالأعصاب بحسب دراسات علمية حديثة، وليصبح كل شيء أمام عيني المستخدم له "بلاك في بلاك"، خاصة إذا حدث مع المدمن على "البلاك بيري" موقف لا يحسد عليه، يكون أسوء من موقف الشاب الخليجي المذكور أعلاه، حتى وإن كان الأمر تمثيلية، فهي أولاً وأخيراً مبنية على مشاهدات واقعية ويومية، وإن كانت هذه الحادثة مقتصرة على الدخول بالخطأ إلى مكان غير مناسب، لربما تكون النتائج في مرات قادمة سيئة للغاية، إذا لم يتخذ مدمنو البلاك بيري العبرة، وسيكون من الأفضل أن يكون هناك مكان معين وآمن يتواصلون فيه على هذا النوع من الهواتف، ويفضّل في المنزل أو الحدائق العامة، بغض النظر عن المكالمات التلفونية العامة التي لابد منها، وإلا سيوضع اسمه – للأسف- على "البلاك لِست" (اللائحة السوداء)، التي تضع الشخص في مصاف الخارجين عن القانون، ولن ينفع حينها الندم.

 لا بد من الحذر والتنبّه إلى مخاطر البلاك بيري، التي فعلاً تهدّد الحياة النفسية الاجتماعية في الخليج، ولابد من التعامل مع هذا الأمر بعقلانية أكثر، وإلا سيتورّط مدمنوه في مآزق لايمكن الخروج منها، وفي ذلك عبرة لمن عقل وتدبّر!

عبدالله ميزر –

Abdhisen@gmail.com

0 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You May Also Like