كاميرا تتوسط المسافة بين دينيْن، وسماء مفتوحة على أفقها فوق هذه الكاميرا، وما بين السماء والأرض ثمة معزوفة بانورامية يرقص على إيقاعها مسجدٌ وكنيسة، ثم يمتلأ الفضاء بحمامات سلام قادمة من حيث الحق والخير والجمال.

هذا لم يكن مشهداً من فيلم، بل كانت هي نفسها "نادين لبكي" المخرجة اللبنانية تكتب وتخرج فيلمها الروائي الثاني "وهلأ لوين؟" متخذةّ من إحدى القرى اللبنانية المعزولة عن العالم الخارجي بيئة مكانية وموضوعاتية لفيلمها الموغل في الوطنية والإحساس بالإنسان.

ثمة تعايش جميل ينعم به أهالي القرية، مسلمون ومسيحيون يجمعهم عيش مشترك، مسجد يجاور كنيسة، قنابل وألغام تفصل القرية عن الخارج، باستثناء أخوين مسيحيين يتولّان مهمة التنقل من وإلى القرية عبر نقل الحوائج اللازمة.

بدخول جهاز التلفزيون إلى القرية، وفي إحدى نشراته يصرح باشتباكات بين المسيحيين والمسلمين في إحدى المناطق اللبنانية، ينتفض بدورهم الأهالي لبدء اصطدامات، ولن تكون هذه المرة الأولى التي تحدث هذه المصادمات، لكن في إحدى المرات، يُقتل أحد الشابين ممن كان يتولى مهمة التنقل نتيجة طلقة تستقر في رأسه وهو عائد إلى منزله من خارج القرية.

بحكمة ذكية من والدته، تخبّئ الخبر عن أهالي قريتها بدفن جثته في البئر ليموت السر معه، حتى ابنها الآخر الذي سيثأر لأخيه، تمنعه أمه من الخروج وتصيبه بطلقة في قدمه كي لا تتحول القرية مجدداً إلى ساحة حرب بين المسلمين والمسيحيين.

الحكاية لم تتوقف هنا بالتأكيد، ولأن السلاح يملأ القرية، هنا يأتي دور النساء لإلهاء الرجال عن التفكير بالحرب والطائفية، ليلجأن إلى استقدام راقصات من أوكرانيا وإقامة حفلة وسهر ممتعة لرجالهن وإعداد حلويات مع مواد منومة ومخدرة بالحشيش، وبالتالي توجه أولات النساء إلى حيث مكان السلاح وتغيير مكان اختبائه.

وخلال هذه الأحداث، تمر القرية باشتباكات طائفية كثيرة، وتبدو أماكن العبادة غير نافعة، رغم أن دور رجال الدين يكون مؤثراً وقائداً لنسبة كبيرة من الأهالي.

نساء في قمة التعبيرية

هي لبنان المصغرة بعدسة "لبكي" تغوص عميقاً وتوضح تفاصيل كثيرة عن حياة هؤلاء البسطاء ممن لا يكون لهم ذنب في شيء سوى الطيبة، هذا إذا استثنينا التلفزيون وتأثيره الكبير حين دخوله القرية وتغييره لاتجاهات مشاهديه. لكن بطريقة أخرى، كانت الحياة تبدو جميلة ولاسيما في نهاية الفيلم حين تغير كل واحدة دينها لتعيش حياة جديدة، ويخضع الطرف الآخر لهذه السياسة الجديدة في التعامل.

كعادتها تمنح المخرجة العنصر النسائي الدرو الأكبر في الأحداث، وفي هذا الفيلم كانت الحلول جميعها بيدهن، رغم أنهن بوسائلهن البسيطة يستطعن التأثير في قلب الرجال، لكنهن يتجهن نحو حلول ودرامية غاية في التعبير والوظيفية، فعليهن يتوقف الحل والأداء والشخصية والخروج من الأزمات، وبالتالي كنّ فاعلات في كل دور أدّينه.

وهذا لن يبدو كافياً بنسبة كبيرة إذا لم نعرّج على بعض منهن ممن يقدمن التنازلات تحسباً لدخول القرية في حرب جديدة، فالمخرجة "نادين" هي نفسها التي أخذت دور "آمال" فتاة تحب شاباً مسلماً، وهي بهذه تخاطر بنفسها وتنحو صوب اللاجدوى وتدرك النتيجة جيداً، فضلاً عن امتلاكها لمقهى يجتمع فيه أهالي القرية.

وكذلك "تقلا.. كلود باز مصوبع" تأخذ دوراً جوهرياً، والدة الشباب الذي قتل في اشتباكات طائفية خارج القرية، الأم التي تكتم غيظها خوفاً على مستقبل القرية، ولعل الصرخة الصامتة التي أطلقتها أوقفت عدسة الكاميرا صامتةً لثوانٍ معدودة، بل أدخلت الروح إليها، كانت من أروع مفردات هذا الفيلم.

حتى إن "إيفون.. إيفون معلوف" و"عفاف.. ليلى حكيم" و"فاطمة.. أنجو ريحان" كنّ في غاية الدهشة، واستطعن ببساطتهن في الأداء وقوة إيمانهن الدخول إلى عمق الفكرة المطروحة والوصول بالتالي إلى صورة لا تختلف عن الواقع إلا كونها مصورة سينمائياً.

إذاً هي مفردات الفيلم الأهم، الأيقونات النسائية اللاتي جعلت منها "لبكي" أهمهاعلى الإطلاق، ومن أمثلة تفاصيل المفردات الفيلمية المؤثرة التي أعطت للفيلم ذلك العمق السينمائي، كالمشهد الذي يصور الاشتباكات بين الأهالي ضمن فضاء أقرب إلى المسرح في مساحاته وتنقلات الكاميرا بعدسته الواسعة وكذلك بحواراته وشخوصه الكثيرة، ولاسيما بعد اكتشاف السبب العائد إلى هذه الاشتباكات في ريشة دجاج عليها بقع الدم، ثم المشهد الذي يتطاير فيه غطاء رأس "فاطمة" المعبأ بالدلالات، ولا يمكن نسيان التفاصيل المتعلقة بالطفل الأعرج الذي يشير بصورة أو بأخرى إلى النتيجة الحتمية لهذه الصراعات.

تراجيكوميديا

جاءت الأدوار متوازنة، فلكل منهن دورها الذي يكمل الدور الآخر، وبهذا كان ثمة توازن في الطرح. لكن هذا التوازن خلق أو أدخل الفيلم في نفق مزدحم بالأسئلة من قبيل: كيف أمنح لكل دين حقه؟

ولا أعتقد أن الإجابة عن هكذا سؤال بسيطة. فالمبررات بيد الإثنين، والإشكاليات المختلقة بدورها يتطلب حلها بروية، لكن كيف لجأت المخرجة إلى حل هذه الإشكالية والخروج منها عادلة؟

جاء هذا التوازن بدايةً من خلال أخذ رجلي الدين دورهما كل على حدة وبشكل قريب من الصداقة الأخوية، كما أن طريقة التعبير عن الانفعالات جاءت متقاربة "تخنت أبونا.. شيخنا أغفر لهم"، وكانت عدة مشاهد جريئة تشهد بذلك، مثل مشهد تكسير منحوتة السيدة مريم عليها السلام من قبل أحد المسلمين، وكذا الحوار التراجيكوميدي الذي دار بين الثكلى "تقلا" وتمثال السيدة العذراء في الكنيسة، ولعل هذان المشهدان أعطيا دلالة درامية ووظيفية للفيلم لم يقلّا عن كونهما كانا الأساس.

وما أكمل هذا التوازن في الطرح تلك الجرأة في الطرح المندرجة تحت غطاء البيئة الريفية الموغلة في البساطة بألوان خريفية فيلمية قريبة من الأجواء الفرنسية وبيئتها الغنية بالتعبير والدلالات الإيحائية، بل أعطت الفيلم قيمة أكبر لهذه القرى التي تصلح لتصوير سينمائي محلي غاية في الإيحاء، وكذلك في استعانة المخرجة بالمدرسة الواقعية السحرية في طريقة طرحها، وبذلك كانت الشخصيات الأنثوية متشحة بالسواد في قرية فقدت الكثير من رجالها نتيجة الحروب الطائفية التي تحوم حول البلد مجدداً بطقوس جنائزية محزنة.

لذا، جاءت هذه الحركات والأداءات والألوان لتلبس لبوس الممثلين الذين تراقصوا على نغمات فيلم جدير بالمشاهدة، عن قصة تعايش حقيقي بين المسلمين وأخوانهم المسيحيين، بين المسجد وأخته الكنيسة، بين الحب والصداقة والوفاء، هي لبنان الصغيرة التي عانت من الحرب الأهلية، فكان حاملاً لعدة أيقونات تعطي دروساً في الوحدة الوطنية كما جاء ذلك على لسان الكاتبة والمخرجة "نادين لبكي" في إحدى كلماتها، ولتقول لكل من يحاول أن يضع أو يصنع جدراناً بين الأديان: وماذا بعد؟ ولا سيما بعد أن حاول أهالي القرية دفن جثة ابن "تقلا"، ليتحول حملهم للنعش إلى مشهد كوميدي بين المقبرتين الإسلامية والمسيحية، كون كل واحدة من هؤلاء الأمهات غيّرت دينها.

والآن، هل ستُدفن الجثة في مقبرة المسيحيين أم المسلمين؟

يُذكر أن الفيلم اختير كجزء من مسابقة "نظرة ما" ضمن مهرجان كان السينمائي 2011، وحصل على جائزة الجمهور في مهرجان تورنتو لنفس العام، وكذلك جائزة الجمهور في مهرجان ترابيكا السينمائي، فضلاً عن عدة جوائز أخرى.

آلجي حسين –

Alchy1984@hotmail.com

0 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You May Also Like