مظهرٌ جذاب، مذاقٌ لا يُقاوم، ورائحةٌ يسيل لها اللعاب.. هذا ما يستفزّ شهيّتنا الدّائمة لتناول الوجبات السّريعة في مطاعمها التي تحظى بجماهيرية شعبية واسعة، لاسيما في أمريكا وأوروبا و منطقة الخليج العربي، فبسبب مُتطلّبات الحياة المتصاعدة وتراكم التزاماتها اليومية يحرم أكثر الناس من العودة إلى منازلهم لتناول وجبة مطهوّة في مطابخها التقليديّة، أو إيجاد الوقت الكافي والنّشاط الملائم لطهو تلك الوجبات بمكوّنات طازجة، مما يدفعهم لتناول وجبات سابقة التحضير كالصلصات الجاهزة، أو نماذج شائعة من المعكرونة المعلبة، أو أصابع البطاطا المثلجة أو البيتزا المجمدة، وكلّ ما يتوجب على أرباب الأوقات الضيقة هو أخذها إلى المنزل وتسخينها على عجالة في الفرن أو المايكرويف قبل أن تتسلل رائحتها الشهيّة إلى أنوفهم ويتلذذوا بتناولها خلال دقائق.

لكن ما السرّ الذي يستفز رغبة الناس -لا سيما الفئة الشابة منهم- لتناول الوجبات السريعة باستمرار وفي جميع الأوقات؟  فتدفعهم أحيانًا لتفضيلها على وجباتٍ منزلية رصينة تم إعدادها فعلاً بيد الأم، أو الخالة، أو طاهية المنزل؟

إدمان النكهات

هل سمعت من قبل بمهنة "خبراء تكنولولجيا الطعام" ؟ هذه المهنة تتطلّب موهبة خاصة إلى جانب درجة علمية تؤهل فئة محددة من الناس للعمل في هذا المجال الدقيق والحساس في الوقت ذاته. يعمل الخبراء في تكنولوجيا الطعام وراء الكواليس عادة، وهم بالكاد معروفون خارج صناعة الطعام. وقد يظن البعض أنهم نموذج من نماذج الطهاة لأنهم يقضون كل وقتهم في المطابخ، لكنّهم علماء متميزون يقضون معظم أوقاتهم في معامل مجهزة لخلط مواد معقدة بلا لون وبنسب دقيقة جدا وصغيرة على أمل ابتكار أفضل طريقة لتحضير وجبة جاهزة سوف تُنتج منها عشرات آلاف النسخ أو أكثر، ومن تلك المواد المحفزة للرغبة في طعام بذاته دون سواه "النكهات المغرية".

النكهة الفريدة من نوعها بمكوناتها الكيميائية السرية هي السبب الرئيسي الذي يجعلنا نفضل بعض الأطعمة والمشروبات على غيرها. والفراولة -على سبيل المثال- من النكهات الذائعة الشيوع والمحبوبة في أغذية مختلفة كالـ "تشيز كيك" والـ "ملك شيك"، لكن ما يزرع من ثمرة موسمية غالية كالفراولة لا يكفي لإضفاء نكهتها على جميع تلك الأطعمة حول العالم كله، لذا يتم توظيف بعض الأشخاص الأكثر خبرة وموهبة بين خبراء تكنولوجيا الطعام في العالم لتوليد تلك النكهة من مكونات لا علاقة لها بتلك الثمرة أصلا. وهكذا تم ابتكار آلاف النكهات المألوفة للعديد من الأغذية التي نأكلها ونشربها اليوم ظنا منا أنها تعود لمصادرها الأصلية. إذ يجري  تحليل النكهات الشائعة مثل الفراولة والبرتقال والشوكولا… إلخ، وتفكيكها إلى جزيئاتها الكيميائية المختلفة. وحين يعرف خبراء التكنولوجيا ما الذي ينتج نكهة محددة بالضبط، يستطيعون عندها ابتكار طرق لاستعمال مكونات مختلفة وتوليد التأثير نفسه في متقبلات الحس الشمية والذوقية، ومن ثم إضفاء بعض المواد الكيميائية الجذابة التي تتسبب بإدمان خلايا الشم والتذوق لتلك النكهة لا شعوريا كي نعاود تناول هذا المنتج الغذائي التابع لهذا المطعم أو ذاك المصنع دون غيره. غير أن الأمر ليس بالسهولة التي يتوهمها البعض، لأن إعداد نكهة الفراولة من مكونات أخرى غير الفراولة قد يحتاج إلى أكثر من 300 مكون مختلف ممزوجة معا بالطريقة الصحيحة تماما. ومع هذا يسهل إعداد نكهة الفراولة مقارنة مع النكهة اللذيذة للحم المشوي التي يستلزم إعدادها في مختبر الطعام نحو 1000 مكون مختلف بنسب شديدة الدقة.

المياه الغازية

المياه الغازية هي صناعة هائلة الحجم عالميا. ففي كل عام يشرب الناس حول العالم مليارات العلب والقناني من مشروباتهم المفضلة. إلا أن تطوير منتج جديد واحد له طعم مثير ومنعش قد يستغرق أشهرا، أو حتى سنوات من العمل. ومن هذا المنطلق أصبح الخبراء في تكنولوجيا الطعام جزءا من فريق كبير يعمل كله لتحقيق الهدف نفسه.

في البداية تتم مقابلة المستهلكين وسؤالهم عن أكثر ما يحبونه في مشروبهم المفضل، وما لا يحبونه في المشروبات الأخرى. قد يستفسر الباحثون أيضا عن موقف الأشخاص تجاه الصحة واللياقة. وتستعمل المعلومات التي يتم الحصول عليها من مئات المقابلات لتحديد التصميم الأساسي للمشروب الجديد: ما هي نكهته، وما هو لونه، وما إذا كان يحتوي على السكر أو المحليات الاصطناعية. يجري بعدها تسليم هذه النتائج إلى الخبراء في تكنولوجيا المشروبات الذين يحددون بالضبط المكونات الواجب استعمالها. وهم ينتجون نسخا عدة من المشروب، في كل منها مجموعة مختلفة قليلا من المكونات بغرض الوصول إلى الطعم الأكثر جاذبية قبل أن يتم اختبار هذه النسخ في جلسات اختبار خاصة على نماذج عمرية مختلفة من الناس لمعرفة قوة النكهة التي يفضلها معظم الأشخاص، ثم يتم إقحام غاز ثاني أكسيد الكربون في المشروب تحت ضغط كبير لكي يذوب في السائل. يبقى الغاز في المشروب طالما أنه محفوظ تحت هذا الضغط، لكن عند إطلاق الضغط من خلال فتح العلبة أو القنينة للمرة الأولى يتدفق غاز ثاني أكسيد الكربون خارج السائل. ومن هنا يأتي ذلك الإحساس الفوار في الفم الذي يستمتع به العديد من الأشخاص، ولا يرتوي ظمأ بعضهم الآخر إلا به.

البطاطا المحمرة

عند إنتاج رقاقات البطاطا المحمرة (المقلية) بكميات كبيرة من المهم في شروط هذه الصناعة أن تملك كل رقاقة العرض والعمق نفسهما بحيث تطهى كلها بالتساوي. إلا أن تقطيع رأس بطاطا واحد إلى رقاقات متساوية الحجم متشابهة الشكل أمر صعب، تخيل أن عليك تقطيع آلاف رؤوس البطاطا كل يوم (كما يحدث في مشهد الجندي المعاقب في مسلسلات الرسوم المتحركة) لذا تستخدم المصانع التي تنتج رقاقات البطاطا إحدى الآلات التي تعتبر ثورة حقيقية في صناعة الطعام، ألا وهي "سكين المسدس المائي".

 هذه الآلة عبقرية الصنع تستطيع إنجاز ما لا يستطيع العمال البشر فعله. إنها تستخدم دفقا من الماء الشديد الضغط لتوجيهه إلى البطاطا عبر أنبوب معدني بسرعة 130 كيلومترا في الساعة تقريبا. ومع مرور رؤوس البطاطا عبر الأنبوب، يتم تقطيعها بترتيب إلى رقاقات بالحجم المطلوب. ثم تمسح "أجهزة الإحساس الإلكترونية" في المصنع رقاقات البطاطا لكشف أية عيوب قبل إضافة النكهة المغرية، ومن ثم طهوها.

رقاقات البطاطا المقرمشة

رقاقات البطاطا المقرمشة تلقى اهتماماً كبيراً من القائمين على الصناعات الغذائية على اعتبارها من أكثر الوجبات الخفيفة شيوعاً بين فئتي الأطفال والشباب على وجه خاص، لأن الجمع بين الهشاشة والنكهات السرية القوية يجعل هذه الوجبات الخفيفة ممتعة وجذابة لحاستي الشم والذوق. كانت تلك الوجبات الخفيفة فيما مضى عبارة عن رقاقات بطاطا حقيقيّة، لكن أغلبيتها الآن لا يحضر من الخضار المقطعة إلى شرائح، وإنّما من الدّقيق، دقيق البطاطا عادة، أو دقيق الذرة، أو دقيق الأرز. يُخلط الدقيق مع الماء للحصول على معجون سميك، ثم تضاف إليه النكهات ومكونات أخرى. يمكن بعدها لف هذا المعجون، وضغطه، وقولبته، وتحويله إلى مجموعة منوعة من الأشكال المغرية للبصر والشهية. كما يمكن ضخ الهواء عبر المعجون لجعل المنتج النهائي أكثر خفة وقرمشة. وبعد الطهو ترش هذه الوجبات الخفيفة غالبا بنكهة إضافية قبل توضيبها وإرسالها لقنوات المستهلكين.

رقائق لحم البرغر

لعل أكثر إنجازات الخبراء هو تطوير مصادر جديدة للطعام، منها "الميكوبروتين" الذي يستخدم بمثابة بديل للحم، وله مذاقه ورائحته دون أن يكون لحما.

"الميكوبروتين" ليس حيوانيا ولا نباتيا، فهو مصنوع من فطر صغير أحادي الخلية يعيش في التربة، يتم إنتاجه بكميات كبيرة في المختبرات والمصانع في خزانات عملاقة من الفولاذ الصامت، ليتضاعف مقدار الفطر كل خمس ساعات، ثمّ توضيبه وإضافة النكهة إليه بحيث يشبه مختلف أنواع اللحوم مثل الدجاج والحبش والبقر والنقانق وشرائح البرغر. ومن أشهر شركات الوجبات السريعة التي أطلقت هذا النوع من الطعام شركة "برغر كوارن" الأمريكيّة. وتجدر الإشارة إلى أنه تم إطلاق "برغر كوارن" عام 1994م، رغم أنه لم تتم الموافقة على بيعه إلا في عام 2002م في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن ليس معنى هذا أن جميع مطاعم الوجبات السريعة في الخليج تقدم لنا "الميكوبروتين" على اعتباره لحما، لأن الشروط الصارمة التي تضعها الجهات المسؤولة على تلك المطاعم لا تسمح بمثل تلك التجاوزات، الأمر الذي يجعل أكثرها يقدم لنا لحما حقيقيا تصاحبه نكهات قادرة على تنشيط الرغبة الدائمة في إشباعها بهذا النوع من الغذاء لدى حاستي الذوق والشم.

الوجبات سريعة التحضير

إن ابتكار وجبة جاهزة من ذاك النوع الذي يتطلب منا ثوان أو دقائق معدودة لتسخينه منزلياً ثم تناوله دون مشقة هو تحد هائل بالنسبة إلى خبراء تكنولوجيا الطعام. قد يبدو الأمر بسيطاً، لكنه في الواقع عملية معقدة جداً تستلزم فريقا كاملاً من الأشخاص المحترفين الذين لكل منهم اختصاصه الدقيق. فبعد تحديد المكونات الأساسية قد يمضي الخبراء في التكنولوجيا أياماً في المطبخ وهم يعدلون مقدار كل المكونات لجعل المذاق صحيحاً وجذاب. وكلما أجروا تعديلاً حرصوا على الاحتفاظ بسجل دقيق لكل خطواتهم الكيميائية حتى يعرفوا كيف أنتجوا نكهة معينة. وإذا توجب طهو المكونات، يتم قياس أوقات الطهو بالثواني حتى يمكن الحصول على النتائج نفسها مراراً وتكراراً دون أخطاء.

واعلم أنك حين تشتري وجبة جاهزة، فإنّك تشتري في واقع الأمر شيئين: الطعام والتعليمات المتعلقة بكيفية حفظه وتقديمه. وهذه التعليمات ليست مجرد اقتراح فحسب، إذ اجرى إعدادها من قبل خبراء في تكنولوجيا الطعام يريدونك أن تستمتع بوجبتك. تستلزم العديد من الوجبات الجاهزة تسخيناً إلى درجة حرارة معينة ولفترة محددة من الوقت، لهذا اقرأ دوماً التعليمات الموجودة على مثل هذه الوجبات وتقيد بها، لأن أكثرها قد يسبب المرض أو تسمماً إن لم يتم تسخينه بالقدر الكافي.

زينب علي البحراني –

:مرجع الحقائق العلمية

كتاب: "استعمال التكنولوجيا لإعداد أطعمة مُذهلة"

تأليف: كلينت تويست. ترجمة: الدار العربية للعلوم.

0 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You May Also Like