يقول عملاق الفلسفة الإغريقية الخالد أرسطو: "الموسيقى أسمى من أن تكون أداة للهو والسرور، فهي تطهير للنفوس وراحة للقلوب".  فالموسيقى، بكلّ ما تتمتّع به من سحر وجاذبية معنوية قادرة على التحليق بالمزاج البشري، منتقلة به إلى سماوات رحبة من البهجة  والتفاؤل، وحب الحياة. وتستطيع أن تكون طاقة ‫فعالة مؤثرة ومُعالجة للروح والنفس والجسد، وتحفز على بذل مزيد من الجهد في سبيل النجاح العلمي والمهني والإنساني على اختلاف وجوهه.

يحكى أن الإنسان البدائي أرجع أول صوت سمعه للموسيقى إلى قوى سحرية عجيبة، أمام انبهاره الكبير بهذا الصوت الذي استولى على أحاسيسه وهيمن على مشاعره، فألبسها ثوب الغموض والأسرار والأساطير. وقد رأى أنّ تلك الإيقاعات المُتناغمة أشبه بأرواح خيرة ترفرف حوله وحول مسكنه لطرد الأرواح الشريرة والأشباح. ومع تقدّم الحضارة البشريّة، وتطوّر الزمن  ومدارك وأحاسيس الإنسان، اكتُشف أن للموسيقى سحراً معالجاً للهموم وأوجاع الروح والجسد

 آمن اليونانيون القدامى بأثر الموسيقى وقدرتها على تخفيف التعب والإرهاق، وتعديل الأمزجة الحادة، وشفاء الأمراض النابعة من الوهن العقلي والجسمي. كما أنّ أطباء العرب القدامى استخدموا المواسيقى في العلاج، فقد بين "الرازي" أن للموسيقى آثاراً سحرية تقي المرضى من تأجج أزماتهم النفسية، أما "الكندي" فقد كان يعتقد أن للألحان الموسيقية آثارها الحسنة على صحة الجسم، إذ أنها تستخدم كمقويات للدم وكمسكنات للألم. وفي عصرنا الحديث بدأ الاهتمام الفعلي بالموسيقى كتقنية علاجية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1944 عندما تم إنشاء أول برنامج يدرس في العالم من قبل جامعة ميشيغان، وأول برنامج للخريجين في جامعة كنساس

مع انقضاء القرن العشرين، اصبح في كل دولةٍ من دول العالم المتقدمة مستشفيات تستخدم الموسيقى في علاج   الأمراض قبل العمليات، و خلال المعالجة الكيميائية، ولعلاج آلام الظهر، والنخاع الشوكي، وفي حالات إصابات المخ، والإعاقات الجسدية، والسكتة الدماغية، والخرف، والأمراض العصبية، وارتفاع ضغط الدم، وآلام الرأس، وأمراض القلب، والربو، وأصبح شفاء المرض ممكنا بطريقة مبهجة من دون تناول الأدوية والعقاقير. كما ثبت نجاحها في التغلب على العديد من الرواسب النفسية الناتجة عن تعرض شخص ما للعدوان بشكل أو بآخر، والآلام الحادة والمزمنة بما في ذلك آلام الولادة، ومشكلات الكلام والتخاطب والتواصل، وفي حالات القلق والسلوك العدواني، وغياب التركيز الذهني، والأرق، والاكتئاب

الموسيقى للتخفيف من الألم

تلعب الموسيقى دورًا كبيرًا في إنجاح عمليات التخيل العلاجي، الذي يتطلّب تركيز المرء على صورة أو شعورٍ داخلي مُحدد قادر على استدعاء انفعالات يود المرور بها. ولا يتطلّب ذلك أكثر من مقعد مريح في مكانٍ هادئ يجلس عليه المرء رافعا قدميه عن الأرض قليلا، ثم يغلق عينيه ويستمع إلى موسيقى توقظ النّشاط في خلاياه إن كان الألم يؤثر على الحركة الجسدية، أو إلى موسيقى تبعث على الاسترخاء إذا كان الألم يحرم المبتلى به من النوم. بعد ساعة من الإنصات إلى الموسيقى بتركيز عقلي سيلاحظ المستمع أنّ حدة الألم قد بدأت تتلاشى تدريجيا، لأنّ الألحان الموجهة تحفز إطلاق مادة "الأندروفين" المسكنة للألم في جسم الإنسان

الموسيقى للتخلّص من الأرق

من السهل تطبيق هذا النوع من العلاج الموسيقي في المنزل، وذلك عبر الإنصات لبعض المقطوعات الكلاسيكية المعزوفة على البيانو لأربعة أسابيع متواصلة، كما أن هناك نماذج من الموسيقى الخاصة بجذب النوم يمكن الوصول إليها عبر بعض المواقع المتخصصة على الشبكة الإلكترونية "الإنترنت". تشير الدراسات الأكاديمية إلى أن الموسيقى تدعم مادة "الميلاتونين" المنومة التي يفرزها الجسد البشري، ولوحظ في عيادات النوم المتخصصة أن الموجات الدماغية تتغير إلى نسق مريح عند الاستماع إلى موسيقى البيانو

الموسيقى لطرد الاكتئاب

أثبتت الأبحاث والدراسات أنّ عشر دقائق من الإنصات لموسيقى صاخبة، أو مبهجة لها القدره على بث النشاط والتخفيف من حدة الاكتئاب، على عكس الموسيقى الحزينة أو المحفزة للبكاء. كما كشفت دراسات أخرى أن استماع الطلاب الجامعيين للموسيقى الكلاسيكية يساعد على خفض معدل هرمون ‫الكورتيزول ‬ والتخفيف من ضغط الدم. كما أفصحت دراسة أخرى أجريت على الموظفين أن سماع الموسيقى المفضلة والمحفزة على النشاط زادت من إنتاجية أعمالهم الحركية والكتابية، وخففت من أعراض القلق وعصبية المزاج

نصائح لموسيقى شافية

أوّلا: اختر الموسيقى الملائمة لذوقك وحالتك الصحية والمزاجية، ولا تسمح لنفسك بالاندفاع في اختيار موسيقى تواكب حالتك المزاجيّة فحسب دون أن تكون عواقبها المستقبلية جيدة بالنسبة لصحتك. إذ ليس من المحمود أن تختار موسيقى صاخبة يتناغم إيقاعها مع غضبك من شخص أو موقف ما في الوقت الذي يستحسن فيه أن تنصت لموسيقى هادئة تُعيد ترتيب استقرارك الداخلي واسترخاء عضلاتك

ثانيا: ثمة مواقف تتطلب موسيقى معاكسة تماما لحالتك المزاجية، كتلك المواقف التي تشعر معها بالإحباط أو الكآبة، عندها يجدر بك اختيار موسيقى قادرة على إبهاج روحك ومساعدتك على استرداد ثقتك بنفسك

ثالثا: سماع الموسيقى بواسطة سماعة عادية أفضل من سماعها بواسطة سماعة الأذن، لا سيما وأن بعض الأبحاث الطبية تشير إلى أن خلايا الإنسان تتجاوب بشكل إيجابي أكثر مع الموسيقى المنطلقة بحرية من سماعة عادية. لكن عليك اللجوء لسماعة الأذن في الأوقات التي تضطر فيها لاحترام خصوصية بيئة مهنية أو مجتمعية أو شخصية لا تتقبل سماع ما تسمعه

رابعا: من المستحسن ممارسة رياضة خفيفة من قبيل الركض، أو المشي، أو ركوب الدراجة، مع الاستماع إلى الموسيقى، والحفاظ على تناسق حركة الجسم مع اللحن أثناء أداء التمرين

خامسا: حاول أحيانا أن تفرغ نفسك للإنصات إلى الموسيقى تمامًا وبشكلٍ جاد، كي تحظى بقدرٍ وافٍ من الاسترخاء. أنفرد بنفسك في مكان مريح، اخلع حذاءك، اجلس على مقعدٍ مريح أو استلق بحرية على الأرض أو على سريرك، ثمّ تنفّس بعمق بينما تنصت إلى موسيقى كلاسيكية راقية

سادسا: اسمح للموسيقى بالوصول إلى مشاعرك الداخلية ومسها، أغمض عينيك وحاول أن تتخيّل وتبتكر صورا ذهنية محببة. هذا سيضاعف من مقدرتك على الإبداع، وسيزيد من قدراتك الذهنية

سابعا: حين تنتهي المقطوعات الموسيقية التي تنصت إليها، أسلم نفسك للصمت المطلق ولو لبضع لحظات قبل أن تسمع شيئا آخر، فلذلك أثرٌ ممتاز في مضاعفة إيجابية تلقي أحاسيسك للموسيقى السابقة

 زينب علي البحراني –

zainabahrani@gmail.com

0 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You May Also Like