ولدتُ في الكويت عام ١٩٧٧ ولأن والدي كان دبلوماسياً فقد ترعرعت في بلدان شتى مثل سوريا واليابان وألمانيا والأرجنتين والولايات المتحدة الأمريكية ما بين عام ١٩٧٩ إلى ٢٠١٤. بعد قضاء معظم الخمسة وثلاثون سنة في الخارج عدتُ إلى الكويت في سبتمبر ٢٠١٤، وعملتُ أستاذاً للموسيقى في الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب بينما وفي الآن نفسه أدير فرقة الموسيقى الكويتية الحديثة "بوم ديوان."١
من أجل تحديد السياق التاريخي وتلمس الخيط الأول لبوم ديوان سيتعين عليّ البدء من عام الغزو العراقي. كان والدي متمركزاً في السفارة الكويتية في بون بألمانيا، كنت في الثالثة عشر من عمري حين انتقلتْ عائلتي إلى بون مع جدي الذي كان يعيش معنا هناك حتى انتهاء الغزو. جمعني بجدي رباطاً وثيقاً من الاحترام والصداقة، وفي أحد الأيام وبينما كنت أنتظر الغداء العائلي لاحظتُ أن جدي يرتدي قطعة ملابس لم أعهدها من قبل. عندما سألت والدي عن ماهيّتها أجاب: "هذا وزار. جدك كان نوخذة" استفهمت عن معنى نوخذة فأجاب: رُبّان سفينة.
كنت مأخوذاً باكتشاف حياة جدي كربّان سفينة وعلمتُ آخر الأمر بأنه كان غواصاً على اللؤلؤ وتاجراً بحرياً، وفي المناسبة الوحيدة التي سألته فيها عن حياته في البحر أجاب باقتضاب وأسى: "كل الرجال خذاهم البحر" وحين ألحّيت بتفسير تلقيت الإجابة إياها "كل الرجال خذاهم البحر"، ولم أعاود السؤال مرة أخرى. مع ذلك فإن رده المصاحب بلحن الحداد المصمت قد غمرني بالفضول حول حياة جدي السابقة كرُبّان سفينة وحول مكان عائلتي في التاريخ البحري الكويتي.
عندما بحثت أكثر في تاريخ عائلتنا من خلال المقابلات التي تسعى لكشف التاريخ الإثني "العرقي" مع كبار السن في العائلة اكتشفت أن عائلة المليفي كانت في الأصل تقيم في حي يُدعى فريج سعود في منطقة كويتية قديمة تُسمى جبلة وأطلقوا علينا لقب "النواخذة" أو رَبابين السفن. خلال بحثي وجدت بالصدفة كتاب المؤرخ الكويتي مرزوق الشملان "تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي"٢ ذكر فيه أن عائلة المليفي كانت من بين آخر ثلاث عائلات كويتية لم تزل تُتاجر وتمارس الغوص على اللؤلؤ في عام ١٩٥٥ في الوقت الذي أوشكت فيه المهنة على الاندثار. ستتجلى آثار اكتشافاتي هذه في العقد والنصف المقبل من عملي.
حصلتُ على منحة "ميككراكن" (MacCracken) في جامعة نيويورك في خريف ٢٠٠٨ حيث بدأتُ حياتي المهنية كباحث في الموسيقي العرقية. كان السؤال الرئيسي الذي تمحورت حوله رسالة الدكتوراه المُعَنونة "الكوت والبحر: بحث في إنتاج التراث البحري الكويتي" هو ما الذي يحدث للتقليد عندما يتم اعتباره تراثاً ثقافياً يمثل مناقشة تراثية ثابتة غير متغيرة؟٣ وبعد سنتين من البحث في كلية الدراسات العليا توصلت صدفة إلى مقال في مجلة نيويورك تايمز بعنوان "الغوص على اللؤلؤ والارتباط بالماضي"٤ قرأتُ فيه عن النوخذة خليفة الراشد وكيف درّب الصبية الكويتيون الصغار على الغوص على اللؤلؤ في حملات الغوص السنوية التي تمولها الحكومة. بعد قراءتي للمقال أردت اتباع نهجاً حياً وتجربة الأمر لذا اتصلت بوالدي لمعرفة ما إن كان بإمكاني الانضمام للرحلة التالية حتى أتمكن من تحقيق وإدراج بعض العمل الميداني الإثنوغرافي في رسالة الدكتوراه.
بعد الحصول على الموافقة للمشاركة في رحلة الغوص على اللؤلؤ عام ٢٠١٢ طلبتُ من صديقي والمصور المحترف مايك كروجر الانضمام إلينا في توثيق الرحلة فوتوغرافياً ٥. بالإضافة إلى العمل الميداني الإثنوغرافي الذي تم تحقيقه قام النوخذة خليفة الراشد بتعليمنا كيفية الغوص على اللؤلؤ، تجربة اعتبرتها شعائرية وتأملية بحد ذاتها والتي ربطتني بأسلافي الذين أواهم البحر. استخدم الراشد النهج التعليمي نفسه لنقل المعرفة الجسدية الحية إلي والذي كان يستخدم لتعليم غواصي اللؤلؤ الكويتيين في الماضي. بعد قضاء حياةً كاملةً من التفاني والحفاظ على تقاليد الغوص على اللؤلؤ تُوفي الراشد في عام ٢٠١٨.
قبيل تخرجي وعودتي إلى الكويت قمت بالاتصال بعبد العزيز الحملي والذي كان محاوراً مهماً خلال رحلة الغوص على اللؤلؤ، واليوم هو نهّام فرقة معيوف مجلي للفنون الشعبية ومصرّح له من قبل الحكومة الكويتية بتعليم الشباب الصغار أغاني الغوص على اللؤلؤ في نادي بحر الكويت الرياضي٦. أبلغتُ الحملي بتواصل جامعة نيويورك في أبو ظبي معي لكتابة مقال إثنوغرافي حول فرقة معيوف مجلي للفنون الشعبية وطلبهم لتنظيم عرض للفرقة في جامعة نيويورك في أبو ظبي. رتّب الحملي لقاءاً لي مع سليمان معيوف مجلي قائد فرقة معيوف مجلي، ومن بعدها وعلى مدار عامين أجريت مقابلات إثنوغرافية مع فرقة معيوف مجلي في ديوانهم الخاص. خلال مؤتمر موسيقى الخليج العربي المقام في جامعة نيويورك في أبو ظبي قدمتُ ورقة بحث حول تاريخ عائلة معيوف مجلي قبل تقديمهم للعرض أمام ثلة من الطلبة والأساتذة والضيوف.
حين عودتي للكويت واصلت أنا والحملي تسجيل إيقاعات البحر الكويتي في الاستوديو الخاص بي وعند انتهاء يوم من العمل الدؤوب سألني ما اذا فكرت بمشاركة بعض مؤلفاتي الموسيقية مع سليمان معيوف واثنين من أعضاء الفرقة الذين صدفت مشاركتهم لنا في حملة الغوص على اللؤلؤ. عندما سألت الحملي "هل أنت متأكد من إمكانية إجراء حوار موسيقي متبادل بين الجاز العالمي والفن البحري الكويتي؟"٧ أجاب "الفنون ليست بقرآن مقدس"، حين سمعت الإجابة تشكلت لدي الرغبة بالغوص عميقاً لتجربة الفن البحري الكويتي وتمثيله بتقدير. قررت اتباع نهج إثنوغرافي تطبيقي للجمع بين الموسيقى العالمية والبحري الكويتي والذي قد يأتي يُثمر بإحياء فرقة موسيقية كويتية تقليدية. بالنظر لوقتها، فقد كانت تلك هي اللحظة التي وُلدت فيها فرقة بوم ديوان.
إن اسم بوم ديوان مستوحى من لفظتين، الأولى هي البوم والذي يعتبر من أهم المراكب الشراعية في التاريخ الكويتي وهناك نوعان منه: حجم صغير يستخدم للغوص على اللؤلؤ في محيط الخليج العربي وحجم كبير للتجارة البحرية في المحيط الهندي ممتدة إلى شمال شرق أفريقيا والهند. كذلك اسم البوم يعد استعارة للحوار الموسيقي والثقافي التي ينخرط بها بوم ديوان. أما اللفظة الثانية فهي الديوان وهو مكان التجمع في المنازل الكويتية حيث تقوم عائلات الغواصين على اللؤلؤ بأداء وحفظ وتناقل الأغاني البحرية التقليدية لذا فالإشارة إلى اسم الديوان يشير إلى التعاون بين بوم ديوان والتقاليد الموسيقية الأخرى كائناً ما كان نوعها.
يحكي التاريخ أنه بعد أن تم حصاد اللؤلؤ في الخليج العربي تم تداوله من قبل تُجار البحر الكويتيين مثل جدي في مواقع على طول خط المحيط الهندي وخلال الفترة التي تبادل فيها النواخذة لآلئهم مقابل البضائع اضطر البحارة للانتظار عدة أشهر في مواقع ترحالهم إلى أن تكتمل عملية التبادل وتتغير اتجاه رياح التجارة حتى يتمكنوا من الإبحار عائدين إلى الكويت. خلال فترة المكوث المؤقتة كان البحارة يتفاعلون موسيقياً مع أهل البلد المحليين في الموانئ حيث رست سفنهم، وعند عودتهم إلى الكويت كانوا يتشاركون الأغاني والإيقاعات والأدوات الموسيقية المستوردة الجديدة من رحلاتهم والتي في نهاية الأمر تم ضمها إلى النسيج الموسيقي المحلي للمجتمع. تطورت الموسيقى البحرية الكويتية مع كل موسم تجارة للؤلؤ حتى أصبحت الكويت دولة واندثر الغوص على اللؤلؤ في عام ١٩٥٥.
نتيجة لذلك تحول الفن البحري الذي ساهم الحوار والتبادل الثقافي في خلقه من كونه مطواعاً للتشكل كتقليد اجتماعي رمزي للحياة البحرية الكويتية إلى كونه رمزاً للهوية الوطنية الغير قابلة للتشكل وكتراثاً ثقافياً. يبدو وضع التراث البحري الكويتي اليوم ثابتاً غير متغير لذلك يجب علينا إعادة تطبيق المبادئ إياها من الانفتاح والتقبل والتبادل التي أدت إلى خلق الفن البحري حتى ينمو ويتطور في عصرنا الحديث. كانت هذه هي بذور التطلع التي ألهمت بوم ديوان، فمهمتنا هي إشراك الموسيقى من المخزون البحري الكويتي في حوار مع الموسيقى العالمية تقديراً لأسلافنا الكويتيين الذين استنفعوا من التجارة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المنتشرة في طرق التجارة على المحيط الهندي.
في فبراير عام ٢٠١٩ دعا مدير الفنون التنفيذية في مركز الفنون في جامعة نيويورك أبو ظبي بيل براغين بوم ديوان للتعاون مع فنانين حائزين على جائزة غرامي (Grammy) لست مرات على التوالي وهم أرتورو أوفاريل وأوركسترا الجاز الافريقية اللاتينية. كان أرتورو يبحث في القواسم المشتركة بين التأثير الأفريقي على الموسيقى الأفرو كوبية والايقاعات الخليجية وبناءً على بحثه وإلهامه المستخلص من كتاب "كوبا وموسيقاها" ٨ أوضح أوفاريل كيف كونت الأندلس العربية رابطاً بين الموسيقى الأفرو كوبية والخليجية. في سبتمبر عام ٢٠١٨ أمضى أوفاريل وبيل براغين ثلاثة أيام في منزلي في الكويت حيث أُتيحت لأوفاريل وبوم ديوان الفرصة للتحاور الموسيقي بين موسيقى أوفاريل الكوبية والفن البحري الكويتي في ديواني الخاص.
قامت بوم ديوان بأداء بعض من مؤلفاتي مع أرتورو أوفاريل وأوركسترا الجاز الأفريقية اللاتينية لحفل ملأه الجمهور في مركز الفنون بجامعة نيويورك في أبو ظبي عام ٢٠١٩. كان تبادلاً ثقافياً وموسيقياً عميقاً بين الفرقتين مع إجادة الإيقاعات والنوتات الموسيقية. كلا الفرقتين كانوا منفتحين للتقبل والتأثر بالأخرى أما بالنسبة لبوم ديوان فقد كان هذا التعاون بمثابة إحياء للفن البحري الكويتي التقليدي، وكانت لحظة ارتجاع فني للذاكرة التي ولد فيها هذا الفن التقليدي. خلق الحوار الفني الذي حدث خلال المشروع الخليجي الكوبي سابقة لمشاركات بوم ديوان المستقبلية.
قدمت ديوانيات الفن البحري الكويتي من مثل فرقة معيوف مجلي وبن حسين والماس والعميري رعاية خاصة للفن التقليدي وهم بذلك مسؤولون عن الحفاظ عليه. تتمثل مهمة بوم ديوان في أخذ هذه التقاليد وإطلاق سراحها بعناية وتقدير لتخوض حوارات موسيقية عالمية حيث يمكنها المشاركة والتفاعل والتأثير والتأثر بالمقابل في أنواع الموسيقى غير المحدودة. إن الأمر لا يقتصر على الجهود المضنية للحفاظ على الفن قبل اندثاره إنما يتعلق بالأحرى بإحياء شكلاً تقليدياً للفن الكويتي قبل أن يُنصّب كتراثاً تقليدياً صِرف وكرمزاً ثابتاً للهوية الوطنية التي لا تقبل التغيير.
ومع عدم وجود أي فهم أو سياق للدولة القومية أو مناهج نظرية للتراث فقد حظوا بحرية كبيرة على حساب راحتهم الخاصة. ولّدت هذه الراحة في وقتنا الحاضر أنفة ورضا وطني على حساب التقدم والتطور. إن فننا البحري الذي شكله الحوار والتبادل الثقافي والحاجة الضرورية للبقاء أصبح اليوم بمثابة التراث الثقافي، ناراً مدفونة وخامدة. بالإستعانة بالمجتمع بأسره فإن مهمة بوم ديوان هي اشعال نار الفن البحري وبعثه من هذا الخمود ليستعر.
ملاحظات:
١-
http://boomdiwan.com
٢-
Shamlān, Sayf Marzūq., and Peter Clark. Pearling in the Arabian Gulf: a Kuwaiti Memoir. London Center for Arab Studies, 2001.
٣-
Smith, Laurajane. Uses of Heritage. Routledge, 2010
٤-
Fahim, Kareem. “Diving for Pearls, and a Connection to the Past.” The New York Times, The New York Times, 13 Aug. 2010, www.nytimes.com/2010/08/13/world/middleeast/13kuwait.html?linked=google.
٥-
Kreuger, Mike. “People/Portrait.” Mike Krueger [Photographer], www.kruegermike.com
٦-
النهام: الذي ينشد الأغاني في رحلات الغوص.
٧-
بحري: لفظة عربية تعني متعلق بالبحر
٨-
Sublette, Ned. Cuba and Its Music: FROM THE FIRST DRUMS TO THE MAMBO. Non-Approval Trade, 2007.
ظهرت نسخة من هذه المقالة في منشور خليجسك ، إصدار سبتمبر ٢٠١٩.
كلمات: غازي فيصل المليفي
الترجمة العربية: سـاره السلطان
الرسومات: بيان دحدح