في جميع المجتمعات التي لا تترك مجالًا للبس في طابعها الأبوي، أي في معظم المجتمعات ذات التاريخ الموثق والمجتمعات الحالية ، تهيمن نماذج الثنائية الجندرية على الإيديولوجيا والممارسات، ما يؤدي بالنتيجة إلى اضطهاد وقمع النساء وجميع الأفراد الذين لا يقرنون أنفسهم بنمط جندري إمّا ذكوري أو أنثوي حصرًا١.
بالرغم من أن البنى الاجتماعية الأبوية عبر التاريخ الإنساني قد تكون صعبة الفهم من إطار تحليلي منفرد، لا ضرر من التأكيد بأنه لا يمكن لأي مجتمع أبوي أن يتطوّر ويحيا دون بناء نموذج جندري ثنائي واستمرار عمله (من الآن فصاعدًا، سأشير إلى هذا النموذج اختزالًا بـ"الثنائية الجندرية")، والكويت، بصفتها مجتمعًا أبويًا، ليست استثناءً لهذا المبدأ الجوهري. لا تزال الثنائية الجندرية النموذج الجندري الوحيد المقبول في خطابات البلاد الشعبية وسياساتها الرسمية، الأمر الذي أدّى إلى عواقب قمعية مختلفة، بما في ذلك وليس حصرًا تهميش النساء في الميدان العام، والمراقبة الشعبية والرسمية للأشخاص حاملي صفات الجنس الآخر واضطهادهم بسبب تعبيرهم اللاثنائي عن الهوية الجندرية، والفصل بين الجنسين في التعليم الرسمي.
إن الجندر، فضلًا عن غيره من محددّات الهوية الاجتماعية الرئيسة مثل الجنسانية، والإثنية، والفئة، كفيل بأن يحدد ما إذا كان الشخص سيكون في نظر الآخرين وسيُعامل من قبلهم على أنه فرد شرعي من المجتمع الخاص الذي وُلد فيه، والعرق البشري العام الذي ينتمي إليه بيولوجيًا. يتوجب على المجتمع الكويتي، من أجل أن يشعر جميع أفراده بالترحيب والتقدير، وأن يتمكنوا من الجهر بآرائهم، وشخصيات وطموحاتهم، وتحقيقها، وأن يساهموا بإنجازات اجتماعية وثقافية مهمّة، وأن يكونوا متساوين أمام القانون، تخطي حدود الثنائية وتبنّي نهج متساهل ومتكيّف تجاه مسألة الجندر.
قبل المتابعة، لا بدّ لي من تعريف ما أقصده بالثنائية الجندرية، وتوضيح كيفية تشويهه الحقيق بأساليب مؤذية. بعبارة أبسط، الثنائية الجندرية عبارة عن نموذج معرفي يتعامل مع الاختلاف بين الجنسين كزوجين منسجمين من المتناقضات الجوهرية والمتكاملة. يعتبر الذكر والأنثى، والمذكر والمؤنث أبرز متناقضات الثنائية الجندرية، لكن هذه المتناقضات تتوازى مع مجموعة واسعة من متناقضات أخرى مثل الفاعل والمنقاد، والعدواني والطيّب، والعقلاني والعاطفي، وغيرها الكثير. تختلط المتناقضات في الثنائية الجندرية بحيث تتبدد الاختلافات في ما بينها وتصبح مصطلحاتها قابلة للدمج بشكل تبادلي. تفرض الثنائية الجندرية كذلك الأمر نفسها كحقيقة موضوعية من خلال ربط المتناقضات التي تشكّلها بالبيولوجيا. تولّد الثنائية الجندرية، من بين أوهام أخرى كثيرة، "حقيقة" أن الرجال يميلون إلى التفكير العقلاني لأنهم ذكور من الناحية البيولوجية، بينما تميل النساء إلى الحساسية المرهفة لأنهنّ إناث من الناحية البيولوجية. وهنا السؤال يطرح نفسه: "كيف يمكن لأنماط الثنائية الجندرية المتعنّتة أن تبقى مهيمنة إيديولوجيًا بالرغم من كثرة التناقضات التي تواجهها في إطار الممارسات الاجتماعية الفعلية؟"
وضع الفيلسوف، ميشال فوكو، من مدرسة ما بعد البنيوية، نظرية تفيد بنشوء العلاقة المعقّدة بين الإيديولوجيا والممارسات من رحم قوّة الخطاب لتشكيل الواقع. يصف فوكو، في كتابه المؤثر "أركيولوجية المعرفة"، مهمّته بأنها "مهمّة تقضي بعدم تناول الخطابات كمجموعات من الإشارات بعد الآن، أي عناصر دالّة تشير إلى مضامين أو تصوّرات، وإنما كـ"ممارسات تشكّل الأشياء التي نتحدث عنها بشكل منهجي" (٤٩، تشديدي أنا). يقترح فوكو نظرية معرفة تنشأ فيها شبكة من المعرفة والقوة من تشكيلات خطابية" و"قواعد تشكيل"":
متى استطاع المرء أن يصف، بين عدد من التعابير، نظام تشتت مماثلًا، ومتى استطاع المرء رصد انتظام بين أشياء، أو أنواع من التعبير، أو مفاهيم، أو خيارات تتعلّق بمواضيع رئيسة… سنقول، ولغرض الملاءمة، أننا أمام تشكيل خطابي… أمّا الشروط التي تخضع لها عناصر هذا الانقسام، فنسميّها قواعد التشكيل. فقواعد التشكيل هي شروط وجودية… ضمن انقسام خطابي ما. (٣٩)
بتطبيقنا نهج فوكو تجاه الثنائية الجندرية، نستطيع أن نعرّف كـ"تشكيلات خطابية" كافة المتناقضات الخطابية الصرف، مثل الرجل عدواني، والمرأة منقادة، والتي تحوّل الجندر إلى ثنائية حقيقية. يمكننا أيضًا أن نعرّف كـ"قاعدة تشكيل" تخضع لها هذه المتناقضات، النقيض التكميلي باعتباره مفهومًا ضروريًا مجرّدًا. إن هذه النقطة الأخيرة مقترنة بشكل وثيق بالبنية التي تعرف باسم "المعيارية المغايرة" التي هي عبارة عن مجموعة من المعايير المسيطرة التي تعرّف "الرجل" و"المرأة" على أنهما مخلوقان متناقضان ومغايران جنسيًا، وتربط استمرار ثقافة ما باتحادهما، على نحو مثالي من خلال الزواج. المعيارية المغايرة ضرورية للحفاظ على الثنائية الجندرية، التي تشكّل نمطًا تشغل فيه الذكورية مقامًا ذي امتياز، وبالتالي، تدعم، بشكل أو بآخر، كافة أشكال النظام الأبوي.
يفسّر نموذج فوكو النظري سبب تصنيف بعض السلوكيات في المجتمعات الأبوية بـ"الذكورية"، والأخرى بـ"الأنثوية". إن النزعة السائدة للخطابات التي تتناول مسألة الجندر تحدد التنظيم المعرفي لهذه السلوكيات. لكن من أجل فهم أفضل لآثار الخطاب بحسب تصوّر فوكو، الذي لا يتعامل مع الخطاب على أنه أنماط لغوية منظمة يحددها العرف، وإنما كممارسات لغوية منتظمة ومضبوطة توجد الحقائق التي تسمّيها، لا بدّ لنا من دعم نظريته حول التشكيلات الخطابية بنظرية جوديث بتلر حول تأدية الأدوار.
تعزو الباحثة النظرية في المسائل الجندرية، جوديث بتلر، في مقالها المبتكر بعنوان "الأفعال الأدائية والتشكيل الجندري: بحث في علم الظواهر والنظرية النسوية"، التناسق الجندري كثنائية حقيقية إلى الأداء الجسماني للجندر الذي يتّبع نصًا ثنائيًا يسنّه نظام اجتماعي أبوي ذو معيارية مغايرة:
"… الجندر ليس بأي شكل من الأشكال هوية ثابتة أو مركز قدرة تنطلق منه مختلف الأفعال؛ بل هو هوية بالكاد مترسّخة بشكل في الزمن. إنه هوية ناشئة من خلال تكرار للأفعال محدد الأسلوب. فضلًا عن ذلك، ينشأ الجندر من خلال أسلبة الجسد، وبالتالي، يجب فهمه على أنه الطريقة الروتينية التي تشكّل بها الإيماءات والحركات والتطبيقات الجسدية من مختلف الأنواع وهم الذات المصنّفة جندريًا بشكل دائم. تنقل هذه الصياغة مفهوم الجندر من نموذج جوهري للهوية إلى نموذج يتطلّب نشوء زمانية اجتماعية قائمة." (٥١٩-٥٢٠، التشديد وارد في النسخة الأصلية).
بالرغم من أن التعبير المنتظم عن الخطابات المضبوطة يحد تصوّر الجندر بإطار مرجعي ثنائي، إلا أن الأداء المنتظم لأفعال جسدية محددة الأسلوب يجعل من الجندر هوية بديهية وجوهرية، وليس نتاج نص اجتماعي. هذا وإلى الحد الذي ترتبط فيه لغة الجسد بطرق أخرى لعرض الذات، تمتد نظرية أداء الأدوار التشكيلي لتشمل سلوكيات اجتماعية كثيرة منظّمة إلى جانب الطرق "الذكورية" و"الأنثوية" في عرض الجسم، منها استخدام مصطلحات جندرية، وطرق جندرية للتعبير الذاتي، وأنماط جندرية لمعاشرة الناس، وهوايات جندرية، وميول مهنية جندرية. بديهيًا، لا يتوافق جميع النساء والرجال من حيث الممارسة مع مثل هذه الانقسامات الثنائية الصارخة في السلوك، لكن الانقسامات الثنائية مجسّدة ومؤكّدة في الخطابات المهيمنة.
على صعيد أساسي، فإن فكرة بتلر عن الطابع الأدائي للجندر مدعومة بواقع أن الجنس والجندر مجالان مختلفان. فالطفلة الأنثى وُلدت أنثى ليس إلا، ولم تخرج من رحم أمّها في أي فستان زهري أو خلافه. مع ذلك، تدعم البحوث العلمية التي أجريت على الجنس البيولوجي قدمًا نظرية الجندر الأدائي. تنقل آن فوستو-سترلينغ، أستاذة في الدراسات البيولوجية والجندرية، في هذا الإطار، عن عالم النفس جون ماني بحثه لإثبات أن التمايز الجنسي لحين لحظة الولادة مسار يحدث على مراحل مختلفة لا يقل عددها عن خمسة، ويفضي في بعض الأحيان إلى نتائج تتعارض والمفهوم الثنائي للجندر.
تشير فوستو-سترلينغ إلى أن الجنس المحدد بالكروموسومات ليس دومًا ثنائيًا، إذ أن"البويضة أو الحيوان المنوي قد يفتقر إلى كروموسوم جنسي أو قد يتضمن كروموسومًا إضافيًا. وبالتالي، يكون للجنين الناتج جنس محدد بالكروموسومات غير مألوف مثل XXY، أو XYY، أو XO. فهناك أكثر من فئتين حتّى بالأخذ في الاعتبار المستوى الجنسي الأول فقط." من ثم تدرج المراحل الأربع الأخرى للتمايز الجنسي، وهي: مرحلة الغدّة التناسلية التي يتم خلالها إنتاج الخصيتين والمبيض، ومرحلة الهرمونات التي تشهد ظهور الهرمونات التي توجّه النمو الذكوري والأنثوي، ومرحلة الأعضاء التناسلية الداخلية التي تولّد خلالها الهرمونات الجنسية أعضاءً جنسية داخلية مثل الرحم والبروستات، والمرحلة المتعلقة بالجهاز التناسلي التي تنمو خلاها أعضاء جنسية خارجية مثل العضو الذكري والمهبل.
تلفت فوستو-سترلينغ انتباهنا بشكل أساسي إلى أن النتيجة النهائية لا تتوافق بالضرورة في أي من هذه المراحل من حيث التصميم الثنائي مع نتائج المراحل الأخرى:
… كما هي الحال مع الجنس المحدد بالكروموسومات، لا تأخذ المستويات اللاحقة دومًا طابعًا ثنائيًا حصرًا. هذا وقد تتعارض إحداها مع الأخرى، بحيث تكون إحداها ثنائية والأخرى غير ثنائية. فالطفل الذي يحمل كروموسوم XX قد يولد بعضو ذكري، وقد يكون للشخص الذي يحمل كروموسوم XY مهبل، وهكذا دواليك. إن هذه الأنواع من التعارض تحبط أي خطة ترمي إلى تحديد جنس المولود بذكر أو أنثى بمجرّد النظر إلى أعضائه الخاصة، وذلك بشكل قاطع وإلى الأبد.
تنطوي مداخلة فوستو-سترلينغ، التي تستند إلى حقيقة بيولوجية ملموسة، على انتقاد شديد للثنائية الجندرية. فإن كان من غير الممكن للجنس البيولوجي الاندماج في قالب ثنائي، فذلك يستحيل أيضًا بالنسبة إلى الجندر. لا تصبح الثنائية الجندرية حقيقة إلا حين يتطابق بناؤها من خلال الخطاب والأداء مع نص اجتماعي قائم على المعيارية المغايرة.
كيف نصف عمليّة الثنائية الجندريّة في الكويت بأفضل طريقة ممكنة؟ إنّ معظم المجتمعات لا تزال في غالبها ذات طابع أبوي وهذا الواقع لا يعني أن الثنائية الجندريّة تتخذ الشكل عينه أو تنتج التأثيرات عينها في كافة هذه المجتمعات. فقد أحرزت بلدان عدّة، مثل الولايات المتحدة الأميركية وبلدان غرب وشمال أوروبا، تقدّمًا ملحوظًا في مدى فهمها للهوية الجندريّة والعلاقات بين الجنسين وتعاملها معها، وذلك بالرغم من استمرار بعض المواقف العدائية والقوانين التقييدية المتعلقة بالأشخاص من ذوي الهويّات الجندرية والميول الجنسية غير القائمة على المعيارية المغايرة. بفضل الزخم المستمر للخطاب والنشاط الأكاديمي، والعلمي، والسياسي المخالف للمعايير، ظهر العديد من المساحات الاجتماعية والخطابية المفتوحة التي يستطيع فيها الشاذون (غير الثنائيين) أن يعيشوا هويّاتهم الجندرية وميولهم الجنسيّة دون الخشية من أي انتقام جسدي أو نفسي محتمل. لكن ذلك، لسوء الحظ، لا ينطبق على الكويت ودول أخرى في مجلس التعاون الخليجي، حيث تبقى مساحات الشاذين الآمنة محدودة ومحصورة٢.
من المهم بوجه خاص النظر في الوضع القانوني لممارسات المتحولين جنسيًا في الكويت باعتباره انعكاسًا لغلبة نموذج الثنائيّة الجندريّة. تشير بيلكيس ويلي من منظمّة هيومن رايتس ووتش، في إحدى الدراسات عن الوضع الاجتماعي والقانوني للأشخاص المتحوّلين جنسياً في الكويت، إلى أن مضايقة المتحولين جنسيًا وإساءة معاملتهم بشكل رسمي في الكويت أمر مسموح، وقد تصاعدت حدّته بعد تعديل المادة ١٩٨ من القانون الجزائي في البلاد في العام ٢٠٠٧، إذ تعتبر هذه المادة "انتحال صفة" الجندر الآخر جريمة ضد الأخلاق العامة٣. تكشف ويلي، في سياق أكثر أهمية، عن أنّ تجريم ممارسات المتحولّين جنسيًا يعكس المفاهيم التقليدية والثنائية للجندر التي تنتشر في الخطابات الشعبية، ويعزّزها:
ذكرت السلطات الكويتية المواقف المحلية تجاه النساء المتحوّلات جنسيًا كذريعة لفرض قوانين وسياسات قمعية. فقد أفادت نساء متحوّلات جنسيًا بأنّ المواطنين العاديين يشين بهنّ إلى الشرطة، وما يشجّع هؤلاء على ذلك حملة التشهير الشديدة في وسائل الإعلام الكويتية التي تطال هذه الفئة وتصوّرها كقوة مدمرة وتهديد لنسيج المجتمع الكويتي.
هذا وتظهر ويلي، في تقريرها، بأن "القوانين والسياسات القمعيّة" ضدّ الأشخاص المتحوّلين جنسيًا لا تُفرض بأسلوب بسيط ينطلق من الأعلى نزولًا، لكنّ الخوف الذي يؤجج العداء ضدّ هؤلاء الأفراد يشكّل جزءًا من "نسيج المجتمع الكويتي". يدل هذا الوضع المؤسف على مدى قوّة الثنائية الجندريّة في الإيديولوجية الشعبية، التي تتجلّى أيضًا في الاستخدام المتكرّر لمصطلح "الجنس الثالث" كإهانة هدفها الحفاظ على النظام تستخدم ضدّ الأفراد الذين يعبّرون عن جنسهم بشكل لاثنائي لا لبس فيه.
تتعزّز فكرة الثنائيّة الجندريّة في الكويت أيضًا من خلال الفصل بين الجنسين في التعليم الرسمي.٤ يفترض مؤيّدو هذه السياسة الوجود الدائم لجاذبيّة جنسيّة قويّة بين الذكور والإناث بسبب هويّتهم الجندريّة وميولهم الجنسيّة المختلفة والمتكاملة في آن، وأن هذه الجاذبيّة تستقطب الطلاب الشباب الشهوانيين لممارسة علاقات جنسية خارج إطار الزواج، الأمر الذي يدفعهم إلى مخالفة القوانين الاجتماعية والدينية. لا عجب أن أكثر من دراسة أظهرت بأن هذا التعامل مع الجندر على أساس ثنائي، والذي يلقى مناصرة في الخطاب الديني، يضرّ بالأداء الأكاديمي للطلاب، ويعيق نموهم الفكري، ويقلل من تقديرهم لذاتهم، ويديم انعدام المساواة في العلاقات بين الذكور والإناث. في هذا الإطار، تعرض رانيا النقيب، أستاذة العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة الخليج، تقييمًا جوهريًا حول تأثير الفصل بين الجنسين على المساواة بين الجنسين:
يسمح الفصل في المدارس من المرحلة الابتدائيّة وصولًا إلى الجامعة للرجل الكويتي بتجاهل حقائق التجارب التي تخوضها النساء بكل سهولة، بينما يصعّب على المرأة بلوغ الأشخاص والبنى اللازمة للتوصّل إلى الاعتراف الكامل بها. وما يجعل التغيير عصيًا أكثر هي المستويات الإضافية المختلفة لعمليّة الفصل في المدارس (مثل البدو والحضر، والسنة والشيعة) لكونها تواصل عرقلة تشكيل حركة تضامنية مع المرأة٥. (٧)
من هذا المنطلق، وبالرغم من أن مظاهر حمل صفات الجنس الآخر تطمس الحدود الفاصلة بين الذكورة والأنوثة، مهدّدة بذلك المقام المتميّز الذي يحظى به الرجل، فإن الفصل بين الجنسين يجعل الذكور دومًا غافلين عن اضطهاد الرجل للمرأة أو غير آبهين به.
لا بدّ لنا من العودة إلى نظرية أداء الأدوار لجوديث بتلر من أجل التخلّص من قيود الثنائية الجندريّة. بحسب هذه الأخيرة، بمجرد استيعاب الجندر كمجموعة نصية من الأفعال المتقطعة التي تتخذ مظهر حقيقة متواصلة وجوهرية من خلال التكرار مع الوقت، يصبح أداء الهوية الجندرية، بمختلف تطبيقاته، وبالتالي بناها المختلفة، معقولًا وممكنًا:
إذا كان أساس الهوية الجندريّة هو التكرار المحدد الأسلوب للأفعال عبر الزمن، وليس هوية متجانسة في الظاهر، عندها يجد المرء إمكانات التحول الجندري في العلاقة العشوائية بين هذه الأفعال، في احتمال وجود نوع مختلف من التكرار، وفي كسر ذلك الأسلوب أو تكراره بطريقة مزعزعة. (٥٢٠)
أرى أن احتمال وجود "نوع آخر من التكرار" هو الخطوة الأولى على درب التغيير. تؤكّد بتلر من جهتها بأن لغة الجسد اليومية يمكن "أسلبتها" بشكل يقوّض اتساق الثنائية الجندرية كإطار معرفي وحقيقة جسمانية في آن. إذا ما أوضحنا بأن السلوك المزعزع يشمل جميع الأفعال غير القائمة على المعيارية المغايرة والمتكرّرة في الأماكن العامة، عندئذ ستبرز مجموعة واسعة من الإمكانات لإحباط الثنائية الجندرية مثل رجال يجوبون الأماكن العامة بثياب أو أكسسوارات "نسائية"؛ أو رجال يسيرون ويتحدثون "كالنساء"؛ أو نساء يقمن بأنشطة "ذكورية" مثل التدخين أو الرياضات الاحترافية؛ أو نساء يفرضن أنفسهن في الأماكن المصنّفة للذكور ويعبّرن عن أنفسهن بلهجة ونبرة حازمة، "كما الرجال". تفقد الثنائية الجندرية قوّتها في جذب الأجساد إلى حقل قوّة مغناطيسي قائم على المعيارية المغايرة، وذلك إلى الحد الذي تستخدم فيه هذه الأجساد حريّتها في أداء هويتها الجندرية بروح لاثنائية من الارتجال والعفوية. عندئذ سيتصدّع القالب الثنائي الثابت للجندر، وستحل محلّ الامتثال الجندري أنماط تحريرية ومتقلّبة من التعبير عن الذات وتحقيق الذات القائم على الجندر.
الملاحظات
١-
للاطلاع على الفرضيات المحفّزة للتفكير حول الأصول التاريخية للنظام الأبوي، أنظر أنانثاسوامي. للتدقيق في احتمال ألّا
تكون عبارة "أبوي" صفة دقيقة لعدد محدد من المجتمعات المعاصرة، انظر غاريسون.
٢-
انضمت عُمان إلى الكويت في تجريمها صراحةً "انتحال صفة" الجنس الآخر، بينما عمدت الإمارات العربية المتحدة إلى حظر ارتداء ملابس نسائية للرجال بغرض الدخول إلى مساحات مخصصة للنساء حصرًا، وتفرض المملكة العربية السعودية من جهتها عقوبات على مظاهر التحوّل الجنسي مستندةً إلى اعتقادات قانونية ومبررّةً العقوبة باستنادها بشكل عام إلى الشريعة الإسلامية. هذا وتجرّم الكويت، والسعودية، وقطر، وعُمان، والإمارات العربية المتحدة، وأبوظبي، ودبي، والشارقة المثلية الجنسية بشكل أو بآخر. راجع "#Outlawed" (النشاط المحظور)
٣-
بخصوص المادة ١٩٨ من القانون الجزائي الكويتي، انظر الكويت، "قانون الجزاء"، ٦١.
٤-
بالرغم من أن الفصل بين الجنسين في المدارس الرسمية نشأ بشكل تلقائي من خلال إجماع مجتمعي، إلا أن الفصل بين الجنسين في مؤسسات التعليم العالي الحكومية مطبق قانونًا بموجب المادة الأولى من القانون رقم ٢٤، الذي أصدره مجلس الأمّة الكويتي في العام ١٩٩٦. انظر الكويت، "قانون رقم ٢٤".
٥-
راجع أيضًا المتروك وطفيلي لمزيد من المعلومات حول الأثر الضار للفصل بين الجنسين على التعليم وأبعاد أخرى من حياة الشبّان من البالغين في الكويت.
المراجع
AlMatrouk, Lujain. “The relationship between gender segregation in schools, self-esteem, spiritual values/religion, and peer relations in Kuwait.” Near and Middle Eastern Journal of Research in Education, vol. 2016, no. 3, 2016. QSCIENCE, doi.org/10.5339/nmejre.2016.3/. Accessed 10 July 2019.
Al-Nakib, Rania. “Education and Democratic Development in Kuwait: Citizens in Waiting.” Middle East and North Africa Programme, Chatham House, Mar. 2015, www.chathamhouse.org/sites/default/files/field/field_document/20150408Kuwait.pdf. Accessed 10 July 2011.
Ananthaswamy, Anil, and Kate Douglas. “The origins of sexism: How men came to rule 12,000 years ago.” New Scientist, 18 Apr. 2018, www.newscientist.com/article/mg23831740-400-the-origins-of-sexism-how-men-came-to-rule-12000-years-ago/. Accessed 2 July 2019.Butler, Judith. “Performative Acts and Gender Constitution: An Essay in Phenomenology and Feminist Theory.” Theatre Studies, vol. 40, no. 4, 1988, pp. 519-31. JSTOR, www.jstor.org/stable/3207893/. Accessed 1 July 2019.
Fausto-Sterling, Anne. “Why Sex Is Not Binary.” The New York Times, 25 Oct. 2018, www.nytimes.com/2018/10/25/opinion/sex-biology-binary.html. Accessed 1 July 2019.
Foucault, Michel. The Archaeology of Knowledge and the Discourse on Language. Translated by A. M. Sheridan, Pantheon Books, 1972. Monoskop, monoskop.org/images/9/90/Foucault_Michel_Archaeology_of_Knowledge.pdf. Accessed 1 July 2019.
Garrison, Laura Turner. “6 Modern Societies Where Women Rule.” Mental Floss, Minute Media, 3 Mar. 2017, mentalfloss.com/article/31274/6-modern-societies-where-women-literally-rule/. Accessed 1 July 2019.
Kuwait, National Assembly. Qānūn al-Jazā‘ wa-al-Qawānīn al-Mukammilah la-Hu. Ministry of Justice, 2011, www.e.gov.kw/sites/kgoArabic/Forms/QanoonAlJajaa.pdf. Accessed 10 July 2019.
Kuwait, National Assembly. “Qānūn Raqam 24 li-Sanat 1996 bi-Shaʾn Tanẓīm al-Taʿlīm al-ʿĀlī fī Jāmiʿat al-Kuwayt wa-al-Hayʾah al-ʿĀmmah lil-Taʿlīm al-Taṭbīqī wa-al-Tadrīb wa-al-Taʿlīm fī al-Madāris al-Khāṣṣah.” Shabakat al-Maʿlūmāt al-Qānūnīyah li-Duwal Majlis al Taʿāwun al-Khalījī, www.gcc-legal.org/LawAsPDF.aspx?opt&country=0&LawID=3682/. Accessed 10 July 2019.
“#Outlawed: ‘The Love That Dare Not Speak Its Name.’” Human Rights Watch: LGBT Rights, Human Rights Watch, 2019, internap.hrw.org/features/features/ lgbt_laws/. Accessed 10 July 2019.
Tfaily, Fatima and Amal Samarah. “The Effect of Female Fender Segregation in Schools on Academic Performance, Self-confidence, and Peer Relations: A Case of Colleges and Universities in Kuwait.” International Journal of Education and Research, vol. 6, no. 3, 2018, pp. 211-34, www.ijern.com/journal/2018/March-2018/22.pdf. Accessed 10 July 2019.
Wille, Belkis. “Being Transgender in Kuwait: ‘My Biggest Fear Is a Flat Tire.’” Human Rights Watch, 15 July 2013, www.hrw.org/news/2013/07/15/being-transgender-kuwait-my-biggest-fear-flat-tire/. Accessed 1 July 2019.
ظهرت نسخة من هذه المقالة في منشور خليجسك ، إصدار سبتمبر ٢٠١٩.
كلمات: د. خالد حديد
الترجمة العربية: منار درويش
الرسومات: رقية بنت عبدالله بن علي البلوشية