عندما نتأمل أهمية السرد الثقافي والتراث الوطني، تتبادر إلى أذهاننا أشياء كثيرة، ولكن نادرًا ما يكون المشي أحدها. ومع ذلك، يشير علماء الآثار إلى أن المعرفة التقليدية تظهر أولاً كمعارف مجسدة، تطورت من خلال الحركة الدقيقة والصبورة عبر مساحات الأرض وأقاليمها. ويقولون إن لغة الإنسان تتشكل جزئيًا من خلال تجربة المشاة فما نراه أثناء تحركنا يتطلب التحديد والتعريف والتصنيف. باختصار إن المشي الطويل من موقع إلى آخر يدفعنا إلى صياغة كلمات وتكوين قصص لا تكشف عن نفسها إذا كنا جالسين في الداخل أو محددين بالجمود.
هذا هو الأساس الذي يقوم عليه "التقط ذكريات الترحال" وهو مشروع بحثي يمتد لعدة سنوات ويعيد النظر في الحركات البدوية التاريخية نصف السنوية التي تمت بشكل متكرر بين الصحاري وسواحل البحر في قطر وما حولها. تعد هذه الحركة الجماعية للناس، المتزامنة مع تحول الكوكب وتغير الفصول، مصدرًا مهمًا وإن كان منسيًا للتراث الثقافي غير المادي في قطر. ويقترح المشروع أن الحفاظ على هذا التراث يستلزم الحفاظ على ذكريات مسارات الهجرة هذه وتجربة عبورها.
يتولى قيادة المشروع مختبر "(غير) <الملموس" ، وهو جزء من معهد البحوث الإبداعية في جامعة فرجينيا كومنولث كلية فنون التصميم في قطر، إحدى الجامعات الشريكة لمؤسسة قطر. كان العمل الأول الذي نتج عن المشروع هو معرض استضافه بيت الشركة بمتاحف مشيرب في الفترة من 22 نوفمبر 2023 إلى 27 يناير 2024، والذي تضمن عنصرين أساسيين، أولهم تركيب فني قام بتتبع وتوثيق مسارات الهجرة في شمال وجنوب قطر، أما الثاني فهو فيلم أعاد تمثيل تلك الحركة في الصحراء.
استحوذ العمل التركيبي على الطابع البصري والصوتي للمناطق الوعرة التي تم اجتيازها خلال الرحلات البدوية، معتمدًا على الذكريات والصور والأفلام والتسجيلات الشفهية للتاريخ الموجودة والمؤرشفة في قطر. وقالت الباحثة الرئيسية للمختبر، أستريد كينسينغر، الأستاذ المشارك ورئيس قسم تصميم الغرافيك في جامعة فرجينيا كومنولث كلية فنون التصميم في قطر، إن هذا العمل الفني مستوحى من كتابين تم اكتشافهما خلال البحث الذي أجري في قسم التراث بمكتبة قطر الوطنية، الأول عن البعثة الدنماركية من عام 1959، والثاني مجموعة فريدة من الشعر البدويّ النسائي. كما أنه استلهم أيضًا من قسم التاريخ الشفهي التابع لمتحف قطر الوطني، والذي يضم مقاطع مسجلة مع شيوخ القبائل القطرية يروون فيها ذكريات تجربتهم في الهجرة نصف السنوية.
وأردفت أستريد: «كان هدفنا هو التقاط التاريخ الشفهي المتنوع بشكل حيوي داخل قطر وترجمته فعليًا باستخدام مناهج متنوعة ومتعددة التخصصات. وفي هذا السياق، تعد إعادة التمثيل المادي والمعرفة المجسدة أدوات قوية لتوسيع نطاق التراث الثقافي غير المادي، مما يسمح للجمهور المهتم بالتجربة المشاركة في رحلة متعددة الحواس. ولهذا السبب فإن هذا المعرض شامل يحتوي على الصوت والملمس والفيلم والكلمات المرتبطة مباشرة بالصحراء».
بالإضافة إلى التركيب، تضمن المعرض أيضًا إعادة تمثيل لرحلة الهجرة التي قام بها عضوان من الفريق الأساسي للمشروع، خريجتا برنامج تصميم الغرافيك مها المري وسارة النعيمي، اللتان انطلقتا في رحلة إلى الصحراء مع مسجلات صوتية على أقدامهم لالتقاط صوت المشي على رمال الوطن. ويظهر الفيديو سارة وهي تتتبع مسارات الهجرة نصف السنوية لأسلافها في شمال قطر، ومها وهي تتتبع خطى أجدادها نحو جنوب قطر وإلى ما يعرف حاليًا بالمملكة العربية السعودية. وقد تم إجراء كلتا البعثتين في الأوقات الموسمية للهجرات الشتوية التاريخية.
تقول مها: «يمثل المختبر مكانًا خاصًا بالنسبة لي أشعر فيه بأن قصص أجدادنا تنبض بالحياة. لا يتعلق هذا الأمر فقط بالتعلم عن الماضي؛ إنها مغامرة شخصية، وإعادة اكتشاف للهوية، وحلقة سحرية بين أصولنا العريقة ومسارنا المستقبلي، والتزام بضمان ازدهار تراثنا في قلوب وعقول الأجيال القادمة».
وسيواصل مشروع "التقط ذكريات الترحال" جمع الوثائق الموجودة والبحث عن الذكريات غير المسجلة للهجرة القطرية نصف السنوية لمبادراته وبرامجه المستقبلية. وكما هو الحال في المعرض، سيتمحور هذا البحث حول المسيرة نفسها، احتفالاً بذكريات المعارف والحكم التقليدية المرتبطة بشدة بالتجربة الفريدة لاجتياز الصحراء. غالبًا ما ننسى أن المجتمعات القبلية القطرية ابتكرت أساليب مميزة عبر التاريخ لدمج البيانات المفيدة والفلسفات الفكرية في أنواع من الأنشطة المرتبطة بمناظر طبيعية معينة. تتضمن هذه البيانات أشكال المعرفة الجغرافية والبيولوجية والأنساب وغيرها من أشكال المعرفة التي تحدد العلاقات الإنسانية مع النباتات والحيوانات والأرض والمياه.
وبعيدًا عن سياق دولة قطر، فإن التركيز الفريد على المشي يمثل فرصة للتأمل في نشاط بشري قد يبدو مملًا وعاديًا بسبب رتابته وتكراره. ولكن كما يوضح المشروع، فإن المشي يكشف عن كلمات سياقية ومعرفة بيئية محلية تحدد هوية المجتمع وتميز لغة عن الأخرى. تتطور اللغة أيضًا من خلال تجربة المشاة في تحديد ما نواجهه في محيطنا والبيئات التي نتواجد فيها. وبالتالي، يمكن أن يكون المشي موردًا غير مستغل لاكتشاف قصص الأرض، وإضاءة مسارات السرد الاجتماعي، وإعادة زيارة مواقع الذاكرة الجماعية.
وقد انعكس مؤخرًا الاهتمام العام بالحركة والهجرة كممارسة اجتماعية وثقافية، وفي تاريخ الرحّل في قطر على وجه الخصوص، في معرض نظمه متحف قطر الوطني سلط الضوء على حياة الشعوب الرعوية في عدة مناطق، من الصحراء الوسطى إلى قطر ومنغوليا. وكان المعرض أحد العروض الشهيرة خلال بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 في العام الماضي. ونتيجة لهذا الاهتمام المتزايد بالموضوع، فإن أحد أهداف المشروع هو تقديم اقتراح لإنشاء طريق دائم للمشاة يكون بمثابة مسار شعري وتشاركي للتاريخ الحي، والحفاظ على هذا التقليد وتوسيعه من خلال السياحة وتعزيز الاستدامة الصحية والثقافية.
باستخدامه للأدوات التشاركية والتفاعلية للتعرف على الماضي، والاحتفال بالعزيمة والمثابرة التي أبداها أسلاف البلد، يساهم مشروع "التقط ذكريات الترحال" في المهمة الأكبر لمختبر"(غير) <الملموس". يمثل المختبر استجابة لعالم يزداد عولمة وتجانسا، وتصبح فيه عناصر التراث الثقافي المادي وغير المادي معرضة للضياع أو النسيان، ويسعى في هذا السياق إلى الحفاظ على الثقافة الحية بالتركيز بشكل خاص على معرفة البيئة التقليدية لقطر وتوسيع نفوذها في المستقبل. وبهذا التوجيه، يجمع المختبر بين المصممين والفنانين والباحثين الثقافيين والعلماء وأمناء المتاحف من الجامعات الشريكة بروح التعددية التي تأسست عليها المدينة التعليمية.