هي قصة ذلك الخليط المتجانس والمزيج المتناغم والتنوع الجميل، تلك العوالم والأزمنة والأمكنة المنصهرة حتى الحبّ، هذه الأرض الصغيرة – الكبيرة التي طالما تتسع وتتسع، هنا حيث المسجد والكنيسة، الأسود والأبيض والرمادي، المتعلم والأمّي، ألوان وألوان. كما أنت وأينما كنت في دولة الإمارات، لاشيء يفرض نفسه عليك إلا القانون، مواطناً كنت أم مقيماً أم زائراً، مارسْ معتقداتك الدينية بمنتهى الحرية، تمتعْ بثقافتك، لكن لا تخالف القانون، هذا ما هو مطلوب منك فقط

ثمة نشاطات واضحة لترسيخ هذه القيمة في كافة الإمارات السبع، سواء أكانت عبر محاضرات أو منتديات أو مهرجانات أو فعاليات أخرى، تأتي كلها لتضيف إلى رصيد من يعيش فيها ثقافات أخرى، وتؤكد له أن هذا المكان يستوعبه بقدر ما يحترمه، ويعطيه بقدر ما يأخذ منه في نفس الوقت.

هنا يتعايش أكثر من 200 جنسية تعمل سويةً، وقد تشكل نسبة غير المواطنين الإماراتيين أكثر من ثلاثة أرباع السكان، ورغم أن الشريعة الإسلامية هي الناظم أو مصدر القانون الرسمي، لكن ثمة احترام واضح وتعامل جيد مع الأديان الأخرى كالمسيحية، فضلاً عن الديانات الوضعية القادمة من دول آسيوية، وهذا كله تحت راية العمل والإيمان به كقيمة عليا، والأهم الانطلاق من الإنسان كونه إنساناً وحسب، علماً أن هناك معلومة تؤكد أن أبو ظبي تُعد العاصمة الخليجية الأولى والوحيدة التي استضافت مقر البعثة الفاتيكانية في الخليج عام 1976

حتى إن هذه المسألة محمية قانونياً بموجب المادة رقم (25) من الدستور الإماراتي: "جميع الأفراد لدى القانون سواء، ولا تمييز بين مواطني الاتحاد بسبب الأصل أو الموطن أو العقيدة الدينية أو المركز الاجتماعي"، وكذلك المادة (33): "حرية القيام بشعائر الدين طبقاً للعادات المرعية مصونة، على ألا يخلّ ذلك بالنظام العام، أو ينافي الآداب العامة"

ما سبق لم يأتِ عن عبث أو فراغ ما، بل كان نتيجة لأهمية ترسيخ وتركيز هذه الخاصية داخل المجتمع الإماراتي، خاصية التعايش هذه التي ستبدو بكل تأكيد سيدة الطبيعة الهادئة المحبة لهذا المجتمع الذي يقدس العمل كقيمة عليا مرتبطة بالإنسانية، وبالتالي الوصول إلى نقاط التفاهم والاشتراك بين هذه الأقليات المتعايشة تحت بند الإنسانية لا أكثر ولا أقل

هي ليست مجتمعات صغيرة فقط، أو مجتمعات تعيش منعزلةً عن بعضها بعضاً، فصحيح أن طبيعة الإنسان أن يلجأ سواء في السكن أو العلاقات الاجتماعية لابن بلده كما يقال، لكن في المقابل هناك مناطق تجمعها كلها تحت سقف الوطن، الأمر الذي سيؤثر لاحقاً على تراتبية المجتمع نفسه داخل هذه الطوائف والأعراق والإثنيات

فمن الجاليات الآسيوية مروراً بالإفريقية وصولاً إلى العربية، ثمة مساحات واسعة من اللاتواصل تقضمها أماكن العمل ومساحات الأمكنة والوقت الذي تقطعه هذه الجاليات ومن ضمنها الأفراد الذين لا يملكون إلا أن يكوّنوا مجتمعات داخل مجتمعات والتعايش ضمنها، ومن هنا فقط يمكن الاستنتاج بأن الامتدادات الجغرافية وحدها تقضم اللامعرفة

ولكلّ فكرة هنا قيمة، ومن أهم ما تتميز بها العقليات الإدارية في دولة الإمارات الانفتاح على الآخر واستيعاب أفكاره، ولأن لكل فكرة ما يميزها، سينعكس هذا بطبيعة الحال على مجمل العملية الثقافية، وبالتالي التنوع الثقافي الذي ستظهر آثاره في مناحي الحياة كافة.

بالطبع هناك أسباب جوهرية تقف وراء هذا التعايش في الدولة، ولعل من أهمها الرخاء والاستقرار السياسي والحيادية أو الانحياز نحو القضايا الإنسانية في السياسة الإماراتية، فضلاً عن الفلسفة الاقتصادية في التعامل وهذه العقلية التي تحكم علاقات العمال على سبيل المثال، وليس هذا فقط، بل الأمن المتوفر بحد ذاته، والذي يشكل معضلة بالنسبة لكثير من الدول، وبالتالي لن يكون أمام السائحين إلا التوجه إلى الإمارات، حيث تبلغ نسبتهم ثمانية ملايين سائح سنوياً.

هي الفلسفات الإدارية إذاً التي تخطط وتنفذ وتسهر على راحة الإخاء بين الشعوب في مجتمع كهذا، وكذلك النسيج المهيأ لعقد هذه العلاقات بأية طريقة، ولعل التنظيم الواضح وعدم الالتفاف في التعاملات الحكومية تؤثر بصيغة أو بأخرى على مجمل العمل كله، سواء من لحظة دخول المطار والقدوم من البلد الأم وانتهاءً بترتيبات الخروج من المطار، فكل شيء محضر مسبقاً، ولكل دوره، مع احترام الخصوصيات الدينية أيما احترام، لتحقيق غاية مهمة من نوعها هي التسامح.

لذلك، هي الحياة التي تفرض عليك احترام الآخر وتقبّل عقليته، وربما يبدو عليك هذا التجمع الثقافي غير ذي خطورة، ولاسيما في طريقة ممارسة كل شعب لأعراقه كما كان في موطنه، من خلال اللغة واللباس والطعام، رغم استخدام اللغة الإنكليزية كلغة تجمع الكل، في مجتمع يختزن ويستوعب حتى التخمة ما هو متنوع ومفيد ضمن ثقافة الانفتاح، إيماناً بأن مجموع الآراء أفضل من رأي واحد، وتيقناً بأن تجربة تعايش الشعوب سوية تكون السبيل الناجع للوصول إلى دولة قوية، ولعل التجربة الأوروبية أيضاً من أقوى الأمثلة عن حضارة عظيمة استوعبت الآخر ورمت بالقوميات جانباً وبدأت بالإنسان وبلغته في آن.

آلجي حسين –
Alchy1984@hotmail.com

0 Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You May Also Like